Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 1-23)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { ٱلأَنْفَالِ } الغنائم جمع نفل بالفتح وهو الزيادة وسميت الغنائم به لأنها زيادة على القيام بحماية الدين والأوطان ، وتسمى صلاة التطوع نفلاً ، وولد الولد نافلة لهذا المعنى قال لبيد : @ إنَّ تقوى ربّنا خير نفل وبإِذن اللهِ ريثي والعجل @@ { وَجِلَتْ } الوجل : الخوف والفزع { ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ } الشوكة : السلاح وأصلها من الشَّوك قال أبو عبيدة : ومجاز الشوكة الحد يقال : ما أشدَّ شوكة بني فلان أي حدّهم { تَسْتَغِيثُونَ } الاستغاثة : طلب النصرة والعون { مُرْدِفِينَ } متتابعين يتلو بعضهم بعضاً وردف وأردف بمعنى واحد أي تبع قال الطبري : العرب تقول : أردفته وردِفته بمعنى تبعته وأتبعته قال الشاعر : @ إِذا الجوزاء أردفت الثريا @@ { بَنَانٍ } البنان : جمع بنانة وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين قال عنترة : @ وكان فتى الهيجاء يحمي ذِمارها ويضرب عند الكَربِ كلَّ بنان @@ { زَحْفاً } الزحف : الدنو قليلاً مأخوذ من زحف الصبي إذا مشى على أليته قليلاً قليلاً ثم سمي به الجيش الكثير العدد لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف زحفاً { مُتَحَيِّزاً } منضماً يقال : تحيّز أي انضم واجتمع إِلى غيره { بَآءَ } رجع { مُوهِنُ } مضعف { تَسْتَفْتِحُواْ } استفتح : أي طلب الفتح والنصرة على عدوه . سَبَبُ النّزول : أ - عن ابن عباس قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا ، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فتسارعوا الى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإِننا كنا لكم ردءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إِلينا فأبوا واختصموا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } الآية فقسَّم صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم بالسوية " . ب - روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من تراب يوم بدر فرمى بها في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه فما بقي أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه تراب من تلك القبضة وولوا مدبرين فنزلت { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ … } " الآية . التفسِير : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } أي يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها من بدر لمن هي ؟ وكيف تقسم ؟ { قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ } أي قل لهم : الحكم فيها لله والرسول لا لكم { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أي أصلحوا الحال التي بينكم بالائتلاف وعدم الاختلاف { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في الحكم في الغنائم قال عبادة بن الصامت : نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا ، فنزع الله الأنفال من أيدينا وجعلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله ، وطاعة رسوله ، وإِصلاح ذات البين { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } شرط حذف جوابه أي إِن كنتم حقاً مؤمنين كاملين في الإِيمان فأطيعوا الله ورسوله { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي إِنما الكاملون في الإِيمان المخلصون فيه { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي إِذا ذكر اسم الله فزعت قلوبهم لمجرد ذكره ، استعظاماً لشأنه ، وتهيباً منه جلَّ وعلا { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أي إِذا تليت عليهم آيات القرآن ازداد تصديقهم ويقينهم بالله { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي لا يرجون غير الله ولا يرهبون سواه قال في البحر : أخبر عنهم باسم الموصول بثلاث مقامات عظيمة وهي : مقام الخوف ، ومقام الزيادة في الإِيمان ، ومقام التوكل على الرحمن { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بخشوعها وفروضها وآدابها { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي وينفقون في طاعة الله مما أعطاهم الله ، وهو عام في الزكاة ونوافل الصدقات { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة هم المؤمنون إِيماناً حقاً لأنهم جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } أي لهم منازل رفيعة في الجنة { وَمَغْفِرَةٌ } أي تكفير لما فرط منهم من الذنوب { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي رزق دائم مستمر مقرون بالإِكرام والتعظيم { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ } الكاف تقتضي مشبّهاً قال ابن عطية : شبهت هذه القصة التي هي إِخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها ، والمعنى : حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب وقال الطبري : المعنى : كما أخرجك ربك بالحق على كرهٍ من فريقٍ من المؤمنين كذلك يجادلونك في الحق بعد ما تَبيَّن ، والحقُّ الذي كانوا يجادلون فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما تبيّنوه هو القتال { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } أي والحال أن فريقاً منهم كارهون للخروج لقتال العدو خوفاً من القتل أو لعدم الاستعداد { يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } أي يجادلونك يا محمد في شأن الخروج للقتال بعد أن وضح لهم الحق وبان ، وكان جدالهم هو قولهم : ما كان خروجنا إِلاّ للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } قال البيضاوي : أي يكرهون القتال كراهة من ينساق إِلى الموت وهو يشاهد أسبابه ، وذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم ، وفيه إِيماء إِلى أن مجادلتهم إِنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } أي اذكروا حين وعدكم الله يا أصحاب محمد إِحدى الفرقتين أنها لكم غنيمة إِما العير أو النفير { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي وتحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير لأنها كانت محمّلة بتجارة قريش قال المفسرون : " روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة برآسة أبي سفيان ، ونزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد : إِن الله وعدكم إِحدى الطائفتين : إِما العير وإِما قريشاً ، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فاختاروا العير لخفة الحرب وكثرة الغنيمة ، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل : يا أهل مكة النجاء النجاءَ ، عيركُم أموالكم إِن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبداً ، فخرج المشركون على كل صعب وذلول ومعهم أبو جهل حتى وصلوا بدراً ، ونجت القافلة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم : إِن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا يا رسول الله : عليك بالعير ودع العدو فغضب رسول الله فقام سعد بن عبادة فقال : امض بنا لما شئت فإِنا متبعوك ، وقام سعد بن معاذ فقال : والذي بعثك بالحق لو خضت بنا البحر لخضناه معك فسرْ بنا على بركة الله ، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه : سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إِحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إِلى مصارع القوم " { وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي يظهر الدين الحق وهو الإِسلام بقتل الكفار وإِهلاكهم يوم بدر { وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ } أي يستأصل الكافرين ويهلكهم جملة من أصلهم قال في البحر : والمعنى أنكم ترغبون في الفائدة العاجلة ، وسلامة الأحوال ، وسفساف الأمور ، والله تعالى يريد معالي الأمور ، وإِعلاء الحق ، والفوز في الدارين ، وشتّان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلانهم ، فنصركم وهزمهم ، وأذلهم وأعزكم { لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ } متعلق بمحذوف تقديره : ليحق الحقَّ ويبطل الباطل فعل ما فعل والمراد إِظهار الإِسلام وإِبطال الكفر { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ } أي ولو كره المشركون ذلك أي إِظهار الإِسلام وإِبطال الشرك { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أي اذكروا حين تطلبون من ربكم الغوث بالنصر على المشركين ، روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إِلى المشركين وهم ألف ، وإِلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر ، فاستقبل القبلة ومدَّ يديه يدعو : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إِن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام فلن تعبد في الأرض ، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبيَّ الله كفاكَ مناشدتك ربك فإِنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية { فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } " أي استجاب الله الدعاء بأني معينكم بألف من الملائكة { مُرْدِفِينَ } أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً قال المفسرون : ورد أن جبريل نزل بخمسمائة وقاتل بها في يمين الجيش ، ونزل ميكائيل بخمسمائة وقاتل بها في يسار الجيش ، ولم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إِلا في بدر ، وأما في غيرها فكانت تنزل الملائكة لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ } أي وما جعل إِمدادكم بالملائكة إِلا بشارة لكم بالنصر { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } أي ولتسكن بهذا الإِمداد نفوسكم { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي وما النصر في الحقيقة إِلا من عند الله العلي الكبير فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وعدّتكم { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي غالب لا يُغلب يفعل ما تقضي به الحكمة { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } أي يلقي عليكم النوم أمناً من عنده سبحانه وتعالى ، وهذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غشي الجميعَ النومُ في وقت الخوف قال علي رضي الله عنه : " ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إِلا نائم إِلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح " قال ابن كثير : وكأن ذلك كان للمؤمنين عند شدة البأس ، لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً } تعديد لنعمة أخرى ، وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر فأنزل الله عليهم المطر حتى سالت الأودية ، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر { لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أي من الأحداث والجنابات { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ } أي يدفع عنكم وسوسته وتخويفه إِياكم من العطش ، قال البيضاوي : روي أنهم نزلوا في كثيبٍ أعفر ، تسوخ فيه الأقدام على غير ماء ، وناموا فاحتلم أكثرهم فوسوس إِليهم الشيطان وقال : كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء ، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ؟ فأنزل الله المطر حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة { وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } أي يقوّيها بالثقة بنصر الله { وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ } أي يُثبت بالمطر الأقدام حتى لا تسوخ في الرمل قال الطبري : ثبّت بالمطر أقدامهم لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملةٍ ميثاء فلبّدها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } تذكير بنعمةٍ أخرى أي يوحي إِلى الملائكة بأني معكم بالعون والنصر { فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي ثبتوا المؤمنين وقوّوا أنفسهم على أعدائهم { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } أي سأقذف في قلوب الكافرين الخوف والفزع حتى ينهزموا { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } أي اضربوهم على الأعناق كقوله { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } [ محمد : 4 ] وقيل : المراد الرءوس لأنها فوق الأعناق { وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي اضربوهم على أطراف الأصابع قال في التسهيل : وفائدة ذلك أن المقاتل إِذا ضربت أصابعه تعطَّل عن القتال فأمكن أسره وقتله { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي ذلك العذاب الفظيع واقع عليهم بسبب مخالفتهم وعصيانهم لأمر الله وأمر رسوله { وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله بالكفر والعناد فإِن عذاب الله شديد له { ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ } أي ذلكم العقاب فذوقوه يا معشر الكفار في الدنيا ، مع أن لكم العقاب الآجل في الآخرة وهو عذاب النار { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } أي إِذا لقيتم أعداءكم الكفار مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون زحفاً { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } أي فلا تنهزموا أمامهم بل اثبتوا واصبروا { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } أي ومن يولهم يوم اللقاء ظهره منهزماً { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي إِلا في حال التوجه إِلى قتال طائفة أخرى ، أو بالفر للكرّ بأن يخيّل إِلى عدوه أنه منهزم ليغرّه مكيدة وهو من باب " الحرب خدعة " { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } أي منضماً إِلى جماعة المسلمين يستنجد بهم { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي فقد رجع بسخطٍ عظيم { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } أي مقره ومسكنه الذي يأوي إِليه نار جهنم { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي بئس المرجع والمآل { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } أي فلم تقتلوهم أيها المسلمون ببدر بقوتكم وقدرتكم ، ولكنَّ الله قتلهم بنصركم عليهم وإِلقاء الرعب في قلوبهم { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أي وما رميت في الحقيقة أنت يا محمد أعين القوم بقبضةٍ من تراب لأن كفاً من تراب لا يملأ عيون الجيش الكبير قال ابن عباس : " أَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال : شاهت الوجوه " ، فلم يبق أحد منهم إِلا أصاب عينيه ومنخريه من تلك الرمية فولوا مدبرين { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } أي بإِيصال ذلك إِليهم فالأمر في الحقيقة من الله { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً } أي فعل ذلك ليقهر الكافرين ويُنعم على المؤمنين بالأجر والنصر والغنيمة { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوالهم عليم بنياتهم وأحوالهم { ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ } أي ذلك الذي حدث من قتل المشركين ونصر المؤمنين حق ، والغرض منه إِضعاف وتوهين كيد الكافرين حتى لا تقوم لهم قائمة { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } هذا خطاب لكفار قريش أي إِن تطلبوا يا معشر الكفار الفتح والنصر على المؤمنين فقد جاءكم الفتح وهو الهزيمة والقهر ، وهذا على سبيل التهكم بهم قال الطبري في رواية الزهري : قال أبو جهل يوم بدر : اللهم أينا كان أفجر ، وأقطع للرحم ، فأحِنْه اليوم - أي أهلكه - فأنزل الله { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } فكان أبو جهل هو المستفتح { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي وإِن تكفّوا يا معشر قريش عن حرب الرسول ومعاداته ، وعن الكفر بالله ورسوله فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ } أي وإِن تعودوا لحربه وقتاله نعد لنصره عليكم { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أي لن تدفع عنكم جماعتكم التي تستنجدون بها شيئاً من عذاب الدنيا مهما كثر الأعوان والأنصار { وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لأن الله سبحانه مع المؤمنين بالنصر والعون والتأييد { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي دوموا على طاعة الله وطاعة رسوله يدم لكم العز الذي حصل ببدر { وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } أي لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره وأصله تتولوا حذفت منه إِحدى التاءين { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } أي تسمعون القرآن والمواعظ { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا تكونوا كالكفار الذين سمعوا بآذانهم دون قلوبهم ، فسماعهم كلا سماع لأن الغرض من السماع التدبر والاتعاظ { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } أي شرَّ الخلق وشرَّ البهائم التي تدبُّ على وجه الأرض { ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ } أي الصمُّ الذين لا يسمعون الحق ، البكم أي الخرس الذين لا ينطقون به { ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي الذين فقدوا العقل الذي يميز به المرء بين الخير والشر ، نزلت في جماعة من بني عبد الدار كانوا يقولون : نحن صمٌّ بكمٌّ عما جاء به محمد ، وتوجهوا لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي جهل ، وفي الآية غاية الذم للكافرين بأنهم أشرُّ من الكلب والخنزير والحمير ، لأنهم لم يستفيدوا من حواسهم فصاروا أخسَّ من كل خسيس { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } أي لو علم الله فيهم شيئاً من الخير لأسمعهم سماع تفهم وتدبر { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } أي ولو فُرض أن الله أسمعهم - وقد علم أن لا خير فيهم - لتولوا وهم معرضون عنه جحوداً وعناداً ، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم إِيمان الكافرين . البَلاَغَة : 1 - { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } الإِشارة بالبعيد عن القريب لعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف . 2 - { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } استعار الدرجات للمراتب الرفيعة والمنازل العالية في الجنة . 3 - { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ } التشبيه هنا تمثيلي . 4 - { أَن يُحِقَّ الحَقَّ } بينهما جناس الاشتقاق . 5 - { ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ } استعيرت الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدّة بينهما . 6 - { وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ } كناية عن استئصالهم بالهلاك . 7 - { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ } صيغة المضارع لاستحضار صورتها الغريبة في الذهن . 8 - { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً } تقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إِلى المؤخر . 9 - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } الخطاب للمشركين على سبيل التهكم كقوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . 10 - { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } شبّه الكفار بالبهائم بل جعلهم شراً منها ، وذلك منتهى البلاغة ونهاية الإِعجاز ، إِذ أن الكافر لا يسمع الحق والبهائم لا تسمع ، ولا ينطق به والبهائم لا تنطق ، ويأكل والبهائم تأكل ، بقي أنه يضر والبهائم لا تضرُّ فكيف لا يكون شراً منها ؟ تنبيه : ذكر تعالى في هذه السورة أنه أمدَّ المؤمنين بألف من الملائكة ، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدَّهم بثلاثة آلاف ، ولا تعارض بين الآيات فإِنه تعالى ذكر هنا لفظ { مُرْدِفِينَ } ومعناه متتابعين فأمدهم أولاً بألف ثم بثلاثة آلاف والله الموفق .