Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 24-40)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى الكافرين ، وشبّههم بالأنعام السارحة لأنهم أعرضوا عن قبول دعوة الله ، أمر المؤمنين هنا بالاستجابة لله والرسول ، وقبول دعوته التي فيها حياة القلوب ، وبها السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة . اللغَة : { مُكَآءً } المكاء : الصفير قال أبو عبيدة : والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصراخ والخوار والدُّعاء والنباح { تَصْدِيَةً } التصدية : التصفيق يقال : صدى تصدية إِذا صفق بيديه وأصله من الصَّدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل { فَيَرْكُمَهُ } الركم : الجمع قال الليث : هو أن تجمع الشيء فوق الشيء حتى تجعله ركاماً مركوماً كركام الرمل والسحاب { سَلَفَ } مضى { سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } عادة الله وسنته في إِهلاك المكذبين من الأمم السالفة { مَوْلاَكُمْ } ناصركم ومعينكم . سَبَبُ النّزول : أخرج ابن جرير عن الزهري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصر يهود بني قريظة طلبوا الصلح فأمرهم أن ينزلوا على حكم " سعد بن معاذ " فقالوا : أرسل لنا " أبا لبابة " فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى ؟ أننزل على حكم سعد ؟ فأشار إِلى حلقه يعني أنه الذبح ، قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فقال : لا والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ فنزلت الآية " { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ … } الآية ثم نزلت توبته . التفسِير : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي أجيبوا دعاء رسوله إِذا دعاكم للإِيمان الذي به تحيا النفوس ، وبه تحيون الحياة الأبدية قال قتادة : هو القرآن فيه الحياة ، والثقة ، والنجاة ، والعصمة في الدنيا والآخرة { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } أي أنه تعالى المتصرف في جميع الأشياء ، يصرّف القلوب كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها ، فيفسخ عزائمه ، ويغيّر مقاصده ، ويلهمه رشده ، أو يُزيغ قلبه عن الصراط السوي ، وفي الحديث : " يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك " قال ابن عباس : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإِيمان قال أبو حيان : وفي ذلك حضٌ على المراقبة ، والخوف من الله تعالى والمبادرة إِلى الاستجابة له جلَّ وعلا { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي وأنه سبحانه إِليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم بأعمالكم { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } أي احذروا بطش الله وانتقامه إن عصيتم أمره واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالم خاصة بل تعم الجميع ، وتصل إِلى الصالح والطالح ، لأن الظالم يهلك بظلمه وعصيانه ، وغير الظالم يهلك لعدم منعه وسكوته عليه وفي الحديث " إِن الناس إِذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده " قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألاّ يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب ، فيصيب الظالم وغير الظالم { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } وهذا وعيد شديد أي شديد العذاب لمن عصاه { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أي اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن كنتم قلة أذلة يستضعفكم الكفار في أرض مكة فيفتنونكم عن دينكم وينالونكم بالأذى والمكروه { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ } أي تخافون المشركين أن يختطفوكم بالقتل والسلب ، والخطف : الأخذ بسرعة { فَآوَاكُمْ } أي جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وهو المدينة المنورة { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } أي أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره المؤزر حتى هزمتموهم { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أي منحكم غنائمهم حلالاً طيبة ولم تكن تحل لأحد من قبل { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لتشكروا الله على هذه النعم الجليلة ، والغرض التذكير بالنعمة فإِنهم كانوا قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية القلة والذلة ، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة ، فعليهم أن يطيعوا الله ويشكروه على هذه النعمة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } أي لا تخونوا دينكم ورسولكم بإِطلاع المشركين على أسرار المؤمنين { وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ } أي ما ائتمنكم عليه من التكاليف الشرعية كقوله { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ … } [ الأحزاب : 72 ] الآية قال ابن عباس : خيانة الله سبحانه بترك فرائضه ، والرسول صلى الله عليه وسلم بترك سنته وارتكاب معصيته ، والأمانات : الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي تعلمون أنه خيانة وتعرفون تبعة ذلك ووباله { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أي محنة من الله ليختبركم كيف تحافظون معها على حدوده قال الإِمام الفخر : وإِنما كانت فتنة لأنها تشغل القلب بالدنيا ، وتصير حجاباً عن خدمة المولى { وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي ثوابه وعطاؤه خير لكم من الأموال والأولاد فاحرصوا على طاعة الله { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } أي إِن أطعتم الله واجتنبتم معاصيه يجعل لكم هداية ونوراً في قلوبكم ، تفرقون به بين الحق والباطل كقوله { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] وفي الآية دليل على أن التقوى تنور القلب ، وتشرح الصدر ، وتزيد في العلم والمعرفة { وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي يسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } أي واسع الفضل عظيم العطاء { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } هذا تذكير بنعمة خاصة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تذكير المؤمنين بالنعمة العامة عليهم والمعنى : اذكر يا محمد حين تآمر عليك المشركون في دار الندوة { لِيُثْبِتُوكَ } أي يحبسوك { أَوْ يَقْتُلُوكَ } أي بالسيف ضربة رجل واحد ليتفرق دمه صلى الله عليه وسلم بين القبائل { أَوْ يُخْرِجُوكَ } أي من مكة { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } أي يحتالون ويتآمرون عليك يا محمد ويدبر لك ربك ما يبطل مكرهم ويفضح أمرهم { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } أي مكره تعالى أنفذ من مكرهم وأبلغ تأثيراً قال الطبري في روايته عن ابن عباس : إِن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة فاعترضهم إِبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال شيخ من العرب ، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح قالوا : أجل فادخل ، فقال انظروا في شأن هذا الرجل - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - فقال قائل : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك ، فصرخ عدو الله وقال : والله ما هذا لكم برأي ، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه فإِنه إِذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع ، فقال الشيخ المذكور : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة قوله ، وطلاقة لسانه ، وأخذه القلوب بحديثه ؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم ويقتلوا أشرافكم ، قالوا صدق فانظروا رأياً غير هذا ، فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره ! قالوا : وما هو ؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً ، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، ويتفرق دمه في القبائل كلها ، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه ، فصرخ عدو الله إِبليس : هذا والله الرأي لا أرى غيره ، فتفرقوا على ذلك فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن له بالهجرة ، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ . . } الآية { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن المبين { قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } أي قالوا مكابرة وعناداً : قد سمعنا هذا الكلام ولو أردنا لقلنا مثله { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إِلا أكاذيب وأباطيل وحكايات الأمم السابقة سطروها وليس كلام الله تعالى قال أبو السعود : وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد ، كيف لا ، ولو استطاعوا لما تأخروا ! فما الذي كان يمنعهم وقد تحداهم عشر سنين ؟ وقرِّعوا على العجز ، ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوه ، مع أنفتهم ، وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان ؟ ! { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } أي إِن كان هذا القرآن حقاً منزلاً من عندك { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي أنزل علينا حاصباً وحجارة من السماء كما أنزلتها على قوم لوط { أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي بعذاب مؤلم أهلكنا به ، وهذا تهكم منهم واستهزاء قال ابن كثير : وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم ، وكان الأولى لهم أن يقولوا : اللهم إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ، ولكنهم استعجلوا العقوبة والعذاب لسفههم { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } هذا جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان للسبب الموجب لإِمهالهم أي إِنهم مستحقون للعذاب ولكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إِكراماً لك يا محمد ، فقد جرت سنة الله وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها قال ابن عباس : لم تعذب أمة قط ونبيها فيها ، والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي وما كان الله ليعذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون الله ، وهو إٍشارة الى استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبي الله صلى الله عليه وسلم ، والاستغفار ، أما النبي فقد مضى ، وأما الاستغفار فهو باق إِلى يوم القيامة { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ } أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم ؟ وكيف لا يعذبون وهم على ما هم عليه من العتو والضلال ؟ { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي وحالهم الصد عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وكما اضطروه والمؤمنين إِلى الهجرة من مكة ، { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ } أي ما كانوا أهلاً لولاية المسجد الحرام مع إِشراكهم { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ } أي إِنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكن أكثرهم جهلة سفلة فقد كانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم ، نصد من نشاء ، وندخل من نشاء . . والغرض من الآية بيان استحقاقهم لعذاب الاستئصال بسبب جرائمهم الشنيعة ، ولكن الله رفعه عنهم إِكراماً لرسوله عليه السلام ، ولاستغفار المسلمين المستضعفين { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } هذا من جملة قبائحهم أي ما كانت عبادة المشركين وصلاتهم عند البيت الحرام إِلا تصفيراً وتصفيقاً ، وكانوا يفعلونهما إِذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم ، والمعنى أنهم وضعوا مكان الصلاة والتقرب إِلى الله التصفير والتصفيق قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراةٌ يصفرون ويصفقون { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي فذوقوا عذاب القتل والأَسر بسبب كفركم وأفعالكم القبيحة ، وهو إِشارة إِلى ما حصل لهم يوم بدر { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي يصرفون أموالهم ويبذلونها لمنع الناس عن الدخول في دين الإِسلام ، ولحرب محمد عليه السلام ، قال الطبري : لما أصيب كفار قريش يوم بدر ، ورجع فلُّهم إِلى مكة قالوا : يا معشر قريش إِن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا فنزلت الآية { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أي فسينفقون هذه الأموال ثم تصير ندامة عليهم ، لأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما كانوا يطمعون من إِطفاء نور الله وإِعلاء كلمة الكفر { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } إِخبار بالغيب أي ثم نهايتهم الهزيمة والاندحار { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [ المجادلة : 21 ] { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } أي والذين ماتوا على الكفر منهم يساقون إِلى جهنم ، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } أي ليفرق الله بين جند الرحمن وجند الشيطان ، ويفصل بين المؤمنين الأبرار والكفرة الأشرار ، والمراد بالخبيث والطيب الكافر والمؤمن { وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي يجعل الكفار بعضهم فوق بعض { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } أي يجعلهم كالركام متراكماً بعضهم فوق بعض لشدة الازدحام { فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } أي فيقذف بهم في نار جهنم { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم ، ثم دعاهم تعالى إِلى التوبة والإِنابة ، وحذرهم من الإِصرار على الكفر والضلال فقال سبحانه { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ، إِن ينتهوا عن الكفر ويؤمنوا بالله ويتركوا قتالك وقتال المؤمنين ، يغفر لهم ما قد سلف من الذنوب والآثام { وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } أي وإِن عادوا إِلى قتالك وتكذيبك فقد مضت سنتي في تدمير وإِهلاك المكذبين لأنبيائي ، فكذلك نفعل بهم ، وهذا وعيد شديد لهم بالدمار إِن لم يقلعوا عن المكابرة والعناد { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي قاتلوا يا معشر المؤمنين أعداءكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يعبد إِلا الله وحده ، قال ابن عباس : الفتنة : الشرك ، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض وقال ابن جريج : حتى لا يفتن مؤمن عن دينه { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إِلا دين الإِسلام قال الألوسي : واضمحلالها إِما بهلاك أهلها جميعاً ، أو برجوعهم عنها خشية القتل ، لقوله عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إِله إِلا الله " { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي فإِن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإِن الله مطلع على قلوبهم ، يثيبهم على توبتهم وإِسلامهم { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ } أي وإِن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإِيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن الله ناصركم ومعينكم عليهم ، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم { نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } أي نعم الله أن يكون مولاكم فإِنه لا يضيع من تولاه ، ونعم النصير لكم فإِنه لا يُغلب من نصره الله . البَلاَغَة : 1 - { يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } الكلام من باب الاستعارة التمثيلية ، شبه تمكنه تعالى من قلوب العباد وتصريفها كما يشاء ، بمن يحول بين الشيء والشيء ، وهي استعارة لطيفة . 2 - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة من تآمر المشركين على صاحب الرسالة عليه السلام . 3 - { وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } إِضافة المكر إِليه تعالى على طريق " المشاكلة " بمعنى إِحباط ما دبروا من كيد ومكر ، والمشاكلة ان يتفق اللفظ ويختلف المعنى وقد تقدم . 4 - { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } تأمل التعبير الرائع في أسلوب القرآن حيث وضعوا المكاء والتصدية " التصفير والتصفيق " موضع الصلاة التي ينبغي أن تؤدى عند البيت فكانوا كالأنعام التي لا تفقه معنى العبادة ، ولا تعرف حرمة بيوت الله ، وهو على حد قول القائل : " تحية بينهم ضرب وجيع " . 5 - { ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } كناية عن المؤمن والكافر وبين لفظ " الخبيث " و " الطيب " طباق وهو من المحسنات البديعية . تنبيه : روى الحافظ ابن كثير عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : " كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ ثم قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له ذلك فقال { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " . لطيفَة : حكي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملَّكُوا عليهم امرأة ! فقال الرجل : أجهل من قومي قومك حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إِلى الحق { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ولم يقولوا : إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إِليه ، فسكت معاوية رضي الله عنه .