Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 61-75)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما أمر الله تعالى بإِعداد العدة لإِرهاب الأعداء ، أمر هنا بالسلم بشرط العزة والكرامة متى وجد السبيل إِليه ، لأن الحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة لرد العدوان ، وحرية الأديان ، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان ، ثم تناولت الآيات الكريمة حكم الأسرى ، وختمت السورة بوجوب مناصرة المؤمنين بعضهم لبعض ، بسبب الولاية الكاملة وأخوة الإِيمان . اللغَة : { جْنَحْ } مال يقال : جنح الرجل إِلى فلان إِذا مال إِليه وخضع له ، وجنحت الإِبل : إِذا مالت أعناقها في السير ، ومنه قيل للأضلاع جوانح { ٱلسَّلْمِ } المسالمة والصلح قال الزمخشري : وهي تؤنث تأنيث ضدها وهي الحرب قال الشاعر : @ السِّلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جُرع @@ { حَرِّضِ } التحريض : الحث على الشيء وتحريك الهمة نحوه كالتحضيض { يُثْخِنَ } قال الواحدي : الإِثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته ، يقال : قد أثخنه المرض إِذا اشتدت قوته عليه ، وأثخنته الجراح ، والثخانة : الغلظة ، والمراد بالإِثخان هنا المبالغة في القتل والجراحات . سَبَبُ النّزول : أ - عن عمر رضي الله عنه قال : " لما هزم الله المشركين يوم بدر ، وقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون ، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر : يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة ، وإِني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً ، فقال رسول الله : ما ترى يا ابن الخطاب ! قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة على المشركين ، هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد غدوت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان ، فقلت يا رسول الله : أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ؟ فإِن وجدت بكاءً بكيت ، وإِن لم أجد بكاءً تباكيت ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أبكي للذي عرض علي أصحابك من الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) لشجرة قريبة فأنزل الله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ … } " الآية . ب - لما " وقع العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في الأسر كان معه عشرون أوقية من ذهب ، فلم تحسب له من فدائه ، وكلف أن يفدي ابني أخيه فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أضعفوا على العباس الفداء ) فأخذوا منه ثمانين أوقية فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد تركتني أتكفَّف قريشاً ما بقيت ، فقال له صلى الله عليه وسلم : وأين الذهب الذي تركته عند أم الفضل ؟ فقال : أي الذهب ؟ فقال : إِنك قلت لها : إِني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ! فإِن حدث بي حدث فهو لك ولولدك ، فقال يا ابن أخي : من أخبرك بهذا ؟ قال : الله أخبرني فقال العباس : أشهد أنك صادق ، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم ، وأمر ابني أخيه فأسلما ففيهما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ … } " الآية . التفسِير : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } أي إِن مالوا إِلى الصلح والمهادنة فمل إِليه وأجبهم إِلى ما طلبوا إِن كان فيه مصلحة { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي فوض الأمر إِلى الله ليكون عوناً لك على السلامة { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي هو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بنياتهم { وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ } أي وإِن أرادوا بالصلح خداعك ليستعدوا لك { فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ } أي فإِن الله يكفيك وهو حسبك ، ثم ذكره بنعمته عليه فقال { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } أي قواك وأعانك بنصره وشد أزرك بالمؤمنين قال ابن عباس : يعني الأنصار { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي جمع بين قلوبهم على ما كان بينهم من العداوة والبغضاء ، فأبدلهم بالعداوة حباً ، وبالتباعد قرباً قال القرطبي : وكان تأليف القلوب مع العصبيّة الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ، لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة فيقاتل عليها ، وكانوا أشد خلق الله حمية ، فألف الله بينهم بالإِيمان ، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي لو أنفقت في إِصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال ما قدرت على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } أي ولكنه سبحانه بقدرته البالغة جمع بينهم ووفق ، فإِنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء { إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي غالب على أمره لا يفعل شيئاً إِلا عن حكمة { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي الله وحده كافيك ، وكافي اتباعك ، فلا تحتاجون معه إِلى أحد وقال الحسن البصري : المعنى حسبك أي كافيك الله والمؤمنون { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } أي حض المؤمنين ورغبهم بكل جهدك على قتال المشركين { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } قال أبو السعود : هذا وعد كريم منه تعالى بغلبة كل جماعة من المؤمنين على عشرة أمثالهم والمعنى : إِن يوجد منكم يا معشر المؤمنين عشرون صابرون على شدائد الحرب يغلبوا مائتين من عدوهم ، بعون الله وتأييده { وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي وإِن يوجد منكم مائة - بشرط الصبر عند اللقاء - تغلب ألفاً من الكفار بمشيئة الله { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } الباء سببية أي سبب ذلك بأن الكفار قوم جهلة لا يفقهون حكمة الله ، ولا يعرفون طريق النصر وسببه ، فهم يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب ، فلذلك يُغلبون قال ابن عباس : كان ثبات الواحد للعشرة فرضاً ، ثم لما شق ذلك عليهم نسخ وأصبح ثبات الواحد للاثنين فرضاً { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } أي رفع عنكم ما فيه مشقة عليكم { وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } أي وعلم ضعفكم فرحمكم في أمر القتال { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } أي إِن يوجد منكم مائة صابرة على الشدائد يتغلبوا على مائتين من الكفرة { وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ } أي وإِن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة اللقاء ، يتغلبوا على ألفين من الأعداء { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي بتيسيره وتسهيله { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } هذا ترغيب في الثبات وتبشير بالنصر أي الله معهم بالحفظ والرعاية والنصرة ، ومن كان الله معه فهو الغالب { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أخذ الفداء والمعنى : لا ينبغي لنبي من الأنبياء أن يأخذ الفداء من الأسرى إِلا بعد أن يكثر القتل ويبالغ فيه { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا } أي تريدون أيها المؤمنون بأخذ الفداء حطام الدنيا ومتاعها الزائل ؟ { وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } أي يريد لكم الباقي الدائم ، وهو ثواب الآخرة ، بإِعزاز دينه وقتل أعدائه { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي عزيز في ملكه لا يقهر ولا يُغلب ، حكيم في تدبير مصالح العباد { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ } أي لولا حكم في الأزل من الله سابق وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده { لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي لأصابكم في أخذ الفداء من الأسرى عذاب عظيم ، وروي أنها لما نزلت قال عليه السلام " لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر " { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } أي كلوا يا معشر المجاهدين مما أصبتموه من أعدائكم من الغنائم في الحرب حال كونه حلالاً أي محللاً لكم { طَيِّباً } أي من أطيب المكاسب لأنه ثمرة جهادكم ، وفي الصحيح " وجعل رزقي تحت ظل رمحي " { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي خافوا الله في مخالفة أمره ونهيه { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي مبالغ في المغفرة لمن تاب ، رحيم بعباده حيث أباح لهم الغنائم { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ } أي قل لهؤلاء الذين وقعوا في الأسر من الأعداء ، والمراد بهم أسرى بدر { إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } أي إِن يعلم الله في قلوبكم إِيماناً وإِخلاصاً ، وصدقاً في دعوى الإِيمان { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } أي يعطكم أفضل مما أخذ منكم من الفداء { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي يمحو عنكم ما سلف من الذنوب { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي واسع المغفرة ، عظيم الرحمة لمن تاب وأناب قال البيضاوي : نزلت في العباس رضي الله عنه حين كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه " عقيل " و " نوفل " فقال يا محمد : تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت ، فقال : أين الذهب الذي دفعته إِلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها : إِني لا أدري ما يصيبني في جهتي هذه ، فإِن حدث بي حدث فهو لك ولعيالك ! ! فقال العباس : ما يدريك ؟ قال : أخبرني به ربي تعالى ، قال : فأشهد أنك صادق ، وأن لا إِله إِلا الله وأنك رسوله ، والله لم يطلع عليه أحد ، ولقد دفعته إِليها في سواد الليل ! ! قال العباس : فأبدلني الله خيراً من ذلك ، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي - يعني الموعود - بقوله تعالى { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } وإِن كان هؤلاء الأسرى يريدون خيانتك يا محمد بما أظهروا من القول ودعوى الإِيمان { فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } أي فقد خانوا الله تعالى قبل هذه الغزوة غزوة بدر { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } أي فقواك ونصرك الله عليهم وجعلك تتمكن من رقابهم ، فإِن عادوا إِلى الخيانة فسيمكنك منهم أيضاً { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عالم بجميع ما يجري ، يفعل ما تقضي به حكمته البالغة { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي صدقوا الله ورسوله { وَهَاجَرُواْ } أي تركوا وهجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي جاهدوا الأعداء بالأموال والأنفس لإِعزاز دين الله ، وهم المهاجرون { وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ } أي آووا المهاجرين في ديارهم ونصروا رسول الله وهم الأنصار { أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أي أولئك الموصوفون بالصفات الفاضلة بعضهم أولياء بعض في النصرة والإِرث ، ولهذا أخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } أي آمنوا وأقاموا بمكة فلم يهاجروا إِلى المدينة { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ } أي لا إِرث بينكم وبينهم ولا ولاية حتى يهاجروا من بلد الكفر { وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ } أي وإِن طلبوا منكم النصرة لأجل إِعزاز الدين ، فعليكم أن تنصروهم على أعدائهم لأنهم إِخوانكم { إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي إِلا إِذا استنصروكم على من بينكم وبينهم عهد ومهادنة فلا تعينوهم عليهم { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي رقيب على أعمالكم فلا تخالفوا أمره . ذكر تعالى المؤمنين وقسمهم إِلى ثلاثة أقسام : المهاجرين ، الأنصار ، الذين لم يهاجروا ، فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإِسلام وقد هجروا الديار والأوطان ابتغاء رضوان الله ، وثنى بالأنصار لأنهم نصروا الله ورسوله وجاهدوا بالنفس والمال ، وجعل بين المهاجرين والأنصار الولاية والنصرة ، ثم ذكر حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا وبيّن أنهم حرموا الولاية حتى يهاجروا في سبيل الله ، وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة ذكر حكم الكفار فقال { وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أي هم في الكفر والضلال ملة واحدة فلا يتولاهم إِلا من كان منهم { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } أي وإِن لم تفعلوا ما أمرتم به من تولي المؤمنين وقطع الكفار { تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي تحصل في الأرض فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة ، لأنه يترتب على ذلك قوة الكفار وضعف المسلمين ، ثم عاد بالذكر والثناء على المهاجرين والأنصار فقال { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهم المهاجرون أصحاب السبق إِلى الإِسلام { وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ } وهم الأنصار أصحاب الإِيواء والإِيثار { أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي هؤلاء هم الكاملون في الإِيمان ، المتحققون في مراتب الإِحسان { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي لهم مغفرة لذنوبهم ، ورزق كريم في جنات النعيم قال المفسرون : ليس في هذه الآيات تكرار ، فالآيات السابقة تضمنت الولاية والنصرة بين المؤمنين ، وهذه تضمنت الثناء والتشريف ، ومآل حال أولئك الأبرار من المغفرة والرزق الكريم في دار النعيم { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ } هذا قسم رابع وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فحكمهم حكم المؤمنين السابقين في الثواب والأجر { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } أي أصحاب القرابات بعضهم أحق بإِرث بعض من الأجانب في حكم الله وشرعه قال العلماء : هذه ناسخة للإِرث بالحلف والإِخاء { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي أحاط بكل شيء علماً ، فكل ما شرعه الله حكمة وصواب وصلاح ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وهو ختم للسورة في غاية البراعة . البَلاَغَة : 1 - { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } هذا الأسلوب يسمى بـ " الإِطناب " وفائدته التذكير بالمنة الكبرى والنعمة العظمى على الرسول والمؤمنين . 2 - { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ … } الآيات قال في البحر : انظر إِلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة ، وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد الطلب أثبت في جملتي التخفيف ، ثم ختمت الآيات بقوله { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } مبالغة في شدة المطلوبية ، وهذا النوع من البديع يسمى " الاحتباك " . فلله در التنزيل ما أحلى فصاحته وأنضر بلاغته ! !