Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 41-60)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما أمر تعالى بقتال المشركين ، وذكر فيما تقدم طرفاً من غزوة بدر ، وكان لا بد بعد القتال من أن يغنم المجاهدون الغنائم - وهي أموال المشركين - على طريق القهر والظفر ، ذكر سبحانه هنا حكم الغنائم وكيفية قسمتها ، ثم سرد بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة المجيدة " غزوة بدر " . اللغَة : { الْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا } عدوة الوادي : جانبه وشفيره ، والدنيا تأنيث الأدنى أي الأقرب والمراد ما يلي جانب المدينة { ٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ } القصوى : تأنيث الأقصى أي الأبعد ، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا والمراد ما يلي جانب مكة { نَكَصَ } النكوص : الإِحجام عن الشيء { كَدَأْبِ } الدأب : العادة ، وأصله في اللغة إِدامة العمل يقال : فلان يدأب في كذا أي يدوم عليه ويواظب ثم سميت العادة دأباً لأن الإِنسان مداوم على عادته { تَثْقَفَنَّهُمْ } قال الليث : يقال ثقفنا فلاناً في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به { فَشَرِّدْ } التشريد : التفريق والتبديد يقال : شردت القوم إِذا قاتلتهم وطردتهم عنها حتى فارقوها . التفسِير : { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } أي اعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتوه من أموال المشركين في الحرب سواء كان قليلاً أو كثيراً { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } قال الحسن : هذا مفتاح كلام ، الدنيا والآخرة لله أي أن ذكر اسم الله على جهة التبرك والتعظيم كقوله { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] قال المفسرون : تقسم الغنيمة خمسة أقسام ، فيعطى الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية ، والباقي يوزع على الغانمين { وَلِلرَّسُولِ } أي سهم من الخمس يعطى للرسول صلى الله عليه وسلم { وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ } أي قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب { وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } أي ولهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم ، والفقراء من ذوي الحاجة ، والمنقطع في سفره من المسلمين { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ } جواب الشرط محذوف تقديره : إِن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن هذا هو حكم الله في الغنائم فامتثلوا أمره بطاعته { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } أي وبما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم { يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ } أي يوم بدر لأن الله فرق به بين الحق والباطل { يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } أي جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، والتقى فيه جند الرحمن بجند الشيطان { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي قادر لا يعجزه شيء ، ومنه نصركم مع قلَّتكم وكثرتهم { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا } هذا تصوير للمعركة أي وقت كنتم يا معشر المؤمنين بجانب الوادي القريب الى المدينة { وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ } أي وأعداؤكم المشركون بجانب الوادي الأبعد عن المدينة { وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي والعير التي فيها تجارة قريش في مكان أسفل من مكانكم فيما يلي ساحل البحر { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ } أي ولو تواعدتم أنتم والمشركون على القتال لاختلفتم له ولكن الله بحكمته يسر وتمم ذلك قال كعب بن مالك : إِنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد قال الرازي : المعنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم ، { وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي ولكن جمع بينكم على غير ميعاد ليقضي الله ما أراد بقدرته ، من إِعزاز الإِسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، فكان أمراً متحققاً واقعاً لا محالة قال أبو السعود : والغرض من الآية أن يتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ، ليس إِلا صنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات ، فيزدادوا إِيماناً وشكراً ، وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } أي فعل ذلك تعالى ليكفر من كفر عن وضوح وبيان { وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } أي ويؤمن من آمن عن وضوح وبيان ، فإِن وقعة بدر من الآيات الباهرات على نصر الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم { إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } أي اذكر يا محمد حين أراك الله في المنام أعداءك قلة ، فأخبرت بها أصحابك حتى قويت نفوسهم وتشجعوا على حربهم قال مجاهد : أراه الله إِياهم في منامه قليلاً ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } أي ولو أراك ربك عدوك كثيراً لجبن أصحابك ولم يقدروا على حرب القوم ، وانظر إِلى محاسن القرآن فإِنه لم يسند الفشل إِليه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم بل قال { لَّفَشِلْتُمْ } إِشارة إِلى أصحابه { وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أي ولاختلفتم يا معشر الصحابة في أمر قتالهم { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ } أي ولكن الله أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي عليم بما في القلوب يعلم ما يغيّر أحوالها من الشجاعة والجبن ، والصبر والجزع { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ } هذه الرؤية باليقظة لا بالمنام أي واذكروا يا معشر المؤمنين حين التقيتم في المعركة فقلل الله عدوكم في أعينكم لتزداد جرأتكم عليهم ، وقلَّلكم في أعينهم حتى لا يستعدوا ويتأهبوا لكم قال ابن مسعود : لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل : أتراهم يكونون مائة ؟ وهذا قبل التحام الحرب فلما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبُهتوا وهابوا ، وفُلَّت شوكتهم ، ورأوا ما لم يكن في الحسبان ، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الغزوة { لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي فعل ذلك فجرَّأ المؤمنين على الكافرين ، والكافرين على المؤمنين ، لتقع الحرب ويلتحم القتال ، وينصر الله جنده ويهزم الباطل وحزبه ، وتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أي مصير الأمور كلها إِلى الله يصرّفها كيف يريد ، لا معقب لحكمه وهو الحكيم المجيد ، { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ } هذا إِرشاد إِلى سبيل النصر في مبارزة الأعداء أي إٍِذا لقيتم جماعة من الكفرة فاثبتوا لقتالهم ولا تنهزموا { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } أي أكثروا من ذكر الله بألسنتكم لتستمطروا نصره وعونه وتفوزوا بالظفر عليهم { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي في جميع أقوالكم وأفعالكم ولا تخالفوا أمرهما في شيء { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } أي ولا تختلفوا فيما بينكم فتضعفوا وتجبنوا عن لقاء عدوكم { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي تذهب قوتكم وبأسكم ، ويدخلكم الوهن والخور { وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } أي واصبروا على شدائد الحرب وأهوالها ، فإِن الله مع الصابرين بالنصر والعون { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ } أي لا تكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عتواً وتكبراً ، وطلباً للفخر والثناء ، والآية إِشارة إِلى قول أبي جهل : والله لا نرجع حتى نَرد بدراً ، فنشرب فيها الخمور وننحر الجزور ، وتعزف علينا القيان - المغنيات - وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبداً قال الطبري : فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي ويمنعون الناس عن الدخول في الإِسلام { وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي وهو سبحانه عالم بجميع ذلك وسيجازيهم عليه { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } أي واذكر وقت أن حسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الشرك وعبادة الأصنام ، وخروجهم لحرب الرسول عليه السلام { وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ } أي لن يغلبكم محمد وأصحابه { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } أي مجير ومعين لكم { فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } أي فلما تلاقى الفريقان ولى الشيطان هارباً مولياً الأدبار { وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ } أي بريء من عهد جواركم ، وهذا مبالغة في الخذلان لهم { إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } أي أرى الملائكة نازلين لنصرة المؤمنين وأنتم لا ترون ذلك وفي الحديث " ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ، ولا أدحر ، ولا أحقر ، ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، إِلا ما رأى يوم بدر ، فإِنه رأى جبريل يزْعُ الملائكة " أي يصفها للحرب { إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي إِني أخاف الله أن يعذبني لشدة عقابه قال ابن عباس : جاء إِبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة " سراقة بن مالك " فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإِني جار لكم ، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها وجوه المشركين ، فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام إِلى إِبليس ، فلما رآه - وكانت يده في يد رجلٍ من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال : إِني أرى ما لا ترون إِني أخاف الله ، وكذب عدو الله فإِنه علم أنه لا قوة له ولا منعة وذلك حين رأى الملائكة { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي حين قال أهل النفاق الذين أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر لضعف اعتقادهم بالله { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به قال تعالى في جوابهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي ومن يعتمد على الله ويثق به فإِن الله ناصره لأن الله عزيز أي غالب لا يذل من استجار به ، حكيم في أفعاله وصنعه { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } أي لو رأيت وشاهدت أيها المخاطب أو أيها السامع حالتهم ببدر حين تقبض ملائكة العذاب أرواح الكفرة المجرمين ، وجواب { لَوْ } محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً فظيعاً وشأناً هائلاً قال أبو حيان : وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدل على التهويل والتعظيم أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } أي تضربهم الملائكة من أمامهم وخلفهم ، على وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أي ويقولون لهم : ذوقوا يا معشر الفجرة عذاب النار المحرق ، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل : كانت معهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم ناراً { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي ذلك العذاب بسبب ما كسبتم من الكفر والآثام { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي وانه تعالى عادل ليس بذي ظلم لأحد من العباد حتى يعذبه بغير ذنب ، وصيغة { ظَلاَّمٍ } ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب أي ليس منسوباً إِلى الظلم فقد انتفى أصل الظلم عنه تعالى فتدبره { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي دأب هؤلاء الكفرة في الإِجرام يعني عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه كعمل وطريق آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود في العناد والتكذيب والكفر والإِجرام { كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي جحدوا ما جاءهم به الرسل من عند الله { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } أي أهلكهم بكفرهم وتكذيبهم { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي قوي البطش شديد العذاب ، لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ } أي ذلك الذي حل بهم من العذاب بسبب أن الله عادل في حكمه لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إِلا بسبب ذنبٍ ارتكبه ، وأنه لا يبدل النعمة بالنقمة { حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } أي حتى يبدلوا نعمة الله بالكفر والعصيان ، كتبديل كفار قريش نعمة الله من الخصب والسعة والأمن والعافية ، بالكفر والصد عن سبيل الله وقتال المؤمنين قال السدي : نعمة الله على قريش محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وكذبوه ، فنقله الله إِلى المدينة وحل بالمشركين العقاب { وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي وأنه سبحانه سميع لما يقولون عليم بما يفعلون { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } كرره لزيادة التشنيع والتوبيخ على إِجرامهم أي شأن هؤلاء وحالهم كشأن وحال المكذبين السابقين حيث غيّروا حالهم فغيّر الله نعمته عليهم { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي أهلكناهم بسبب ذنوبهم بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالخسف ، وبعضهم بالحجارة ، وبعضهم بالغرق ولهذا قال { وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ } أي أغرقنا فرعون وقومه معه { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للعذاب { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } أي شر من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه فهم لا يتوقع منهم إِيمان لذلك قال ابن عباس : نزلت في بني قريظة من اليهود ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحاربوه فنقضوا العهد { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ } أي الذين عاهدتهم يا محمد على ألا يعينوا المشركين { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } أي يستمرون على النقض مرة بعد مرة { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } أي لا يتقون الله في نقض العهد قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد يهود بني قريظة ألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه المشركين ، فنقضوا العهد وأعانوا عليه كفار مكة بالسلاح يوم بدر ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد ومالئوا الكفار يوم الخندق { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ } أي فإِن تظفر بهم في الحرب { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي فاقتلهم ونكل بهم تنكيلاً شديداً يشرد غيرهم من الكفرة المجرمين { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي لعلهم يتعظون بما شاهدوا فيرتدعوا والمعنى : اجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يبقى لهم قوة على محاربتك { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } أي وإِن أحسست يا محمد من قوم معاهدين خيانة للعهد ونكثاً بأمارات ظاهرة { فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } أي اطرح إِليهم عهدهم على بينة ووضوح من الأمر قال النحاس : هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه والمعنى : وإِما تخافن من قوم - بينك وبينهم عهد - خيانة فانبذ إِليهم العهد أي قل لهم قد نبذت إِليكم عهدكم وأنا مقاتلكم ، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء ، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك فيكون ذلك خيانة وغدراً { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ } وهذا كالتعليل للأمر بنبذ العهد أي لا يحب من ليس عنده وفاء ولا عهد { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ } أي لا يظنن هؤلاء الكفار الذين أفلتوا يوم بد من القتل أنهم فاتونا فلا نقدر عليهم ، بل هم في قبضتنا وتحت مشيئتنا وقهرنا { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } كلام مستأنف أي إِنهم لا يُعجزون ربهم ، بل هو قادر على الانتقام منهم في كل لحظة ، لا يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } أي أعدوا لقتال أعدائكم جميع أنواع القوة : المادية ، والمعنوية قال الشهاب : وإِنما ذكر القوة هنا لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام ، فنُبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان { وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } أي الخيل التي تربط في سبيل الله { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } أي تُخيفون بتلك القوة الكفار أعداء الله وأعداءكم { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } أي وترهبون به آخرين غيرهم قال ابن زيد : هم المنافقون وقال مجاهد : هم اليهود من بني قريظة والأول أصح لقوله { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } أي لا تعلمون ما هم عليه من النفاق ولكن الله يعلمهم { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي وما تنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي تُعْطون جزاءه وافياً كاملاً يوم القيامة { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي لا تنقصون من ذلك الأجر شيئاً . البَلاَغَة : 1 - { مِّن شَيْءٍ } التنكير للتقليل . 2 - { عَلَىٰ عَبْدِنَا } ذكره صلى الله عليه وسلم بلفظ العبودية وإِضافته إِلى الله للتشريف والتكريم . 3 - { بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا } بين لفظ " الدنيا " و " القصوى " طباق . 4 - { لِّيَهْلِكَ … وَيَحْيَىٰ } استعار الهلاك والحياة للكفر والإِيمان ، وبين " يهلك " و " يحيا " طباقٌ . 5 - { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي تذهب قوتكم وشوكتكم وهو من باب الاستعارة أيضاً . تنبيه : يأمرنا الله تعالى بإِعداد القوة لقتال الأعداء ، وقد جاء التعبير عاماً { مِّن قُوَّةٍ } ليشمل القوة المادية ، والقوة الروحية ، وجميع أسباب القوة ، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإِسلامية وهو لا يرى عندنا معامل للأسلحة ، وذخائر للحرب ، بل كلها مما يشتريه المسلمون من بلاد العدو ؟ فلا بد لنا من العودة إِلى تعاليم الإِسلام إِذا ما أردنا حياة العزة والكرامة .