Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 111-129)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى أحوال المنافقين ، المتخلفين عن الجهاد ، المثبطين عنه ، ذكر صفات المؤمنين المجاهدين ، الذين باعوا أنفسهم لله … ثم ذكر قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتوبة الله عليهم ، وختم السورة بتذكير المؤمنين بالنعمة العظمى ، ببعثة السراج المنير ، النبي العربي ، الذي أرسله الله رحمة للعالمين . اللغَة : { أَوَّاهٌ } كثير التأوه ومعناه الخاشع المتضرع ، يقال : تأوه الرجل تأوهاً إِذا توجع قال الشاعر : @ إِذا ما قمت أُرحلها بليلٍ تأوه آهة الرجل الحزين @@ { حَلِيمٌ } الحليم : الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنب ويصبر على الأذى { ٱلْعُسْرَةِ } الشدة وصعوبة الأمر وتسمى غزوة تبوك " غزوة العسرة " لما فيها من المشقة والشدة { يَزِيغُ } الزيغ : الميل : يقال زاغ قلبه إِذا مال عن الهدى والإِيمان { ظَمَأٌ } الظمأ : شدة العطش { نَصَبٌ } النصب : الإِعياء والتعب { مَخْمَصَةٌ } مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن { يَنَالُونَ } يصيبون ، نال الشيء إِذا أدركه وأصابه { غِلْظَةً } شدة وقوة وحمية { عَزِيزٌ } صعب وشاق { عَنِتُّمْ } العنت : الشدة والمشقة . سَبَبُ النّزول : أ - " لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة - وكانوا سبعين رجلاً - قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، قالوا : فإِذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ … } " الآية . ب - " لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : أي عم قل " لا إِله إِلا الله " كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وابن أبي أُمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول " لا إِله إِلا الله " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ … } " ونزلت { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . التفسِير : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } أي اشترى أموال المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين ، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء قال الحسن : بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله ، أنفساً هو خلقها ، وأموالاً هو رزقها ، ثم وهبها لهم ، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم : ناهيك عن بيعٍ البائعُ فيه المؤمن ، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة ، والصك فيه الكتب السماوية ، والواسطة فيه محمد عليه الصلاة والسلام { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم ، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً { فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ } أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة " التوراة ، والإِنجيل ، والقرآن " { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا قال الزمخشري : لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح ؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } أي أبشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ } كلام مستأنف قال الزجاج : مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإِن لم يجاهدوا كقوله { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [ النساء : 95 ] والمعنى التائبون عن المعاصي ، العابدون أي المخلصون في العبادة ، الحامدون لله في السراء والضراء { ٱلسَّائِحُونَ } أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم ، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } أي المصلون { ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } أي الداعون إِلى الله ، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى ، وينهونهم عن الفساد والردى { وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } أي المحافظون على فرائض الله ، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام قال الطبري : أي المؤدون فرائض الله ، المنتهون إِلى أمره ونهيه { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي بشرهم بجنات النعيم ، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر ، بل لهم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين { وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ } أي ولو كان المشركون أقرباء لهم { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر ، والآية نزلت في أبي طالب { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } [ مريم : 47 ] وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } أي فلما تبين لإِبراهيم أن أباه مصرّ على الكفر ومستمر على الكفر ، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له ، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ } أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب { حَلِيمٌ } أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } [ مريم : 46 ] فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك قال أبو حيان : ولما كان استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه ، وهو الوعد الذي كان وعده به ، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله ، وأنه يموت كافراً ، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين ، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال { بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } أي بعد أن وفقهم للإِيمان { حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية ، ومن يستحق الإِضلال { إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما ، وكل من فيهما عبيده ومماليكه { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي بيده وحده حياتهم وموتهم { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه قال الألوسي : لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإِن كانوا أولي قربى ، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم ، بيّن لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود ، ومتولي أمره ، والغالب عليه ، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى ، ليتوجهوا إِليه بكليتهم ، متبرئين عما سواه ، غير قاصدين إِلا إِياه { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ } أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف ، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك ، حيث تباطأ بعضهم ، وتثاقل عن الجهاد آخرون ، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا ، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم ، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم ، وتنويهاً لشأنهم ، وبعثاً للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرون والأنصار { ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر ، وقلة الزاد ، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك في قيظٍ شديد ، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه ، فقال أبو بكر يا رسول الله : إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا ، قال : تحب ذلك ؟ قال : نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم ، فرجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب ، لما نالهم من المشقة والشدة { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي لطيف رحيم بالمؤمنين { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو ، وهم " كعب ، وهلال ، ومرارة " { حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي ضاقت عليهم مع سعتها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وذلك بسبب " أن الرسول عليه السلام دعا لمقاطعتهم ، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه ، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم " { وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه ، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } أي رجع عليهم بالقبول والرحمة ، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت ، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم ، وكونوا مع أهل الصدق واليقين ، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ } عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام ، بل عليهم أن يفدوه بالمُهَج والأرواح ، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب قال الزمخشري : أُمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه ، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ ، وتهييج لمتابعته عليه السلام { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش { وَلاَ نَصَبٌ } أي ولا تعب { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } أي ولا مجاعة { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي في طريق الجهاد { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً } أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم { يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ } أي يغضب الكفار وطؤها { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } قال ابن عباس : تمرة فما فوقها { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } أي أثبت لهم أجر ذلك { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم قال الألوسي : على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن ، وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد ، روي عن ابن عباس انه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا : لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً ، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار ، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } أي فإِذا لم يمكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ } أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو ، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه قال الألوسي : وكان الظاهر أن يقال ( ليعلِّموا ) بدل { لِيُنذِرُواْ } و ( يفقهون ) بدل { يَحْذَرُونَ } لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة الى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم : الإِرشاد والإِنذار ، وغرض المتعلم : اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا الى غيرهم ، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح ، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا الى الأبعد فالأبعد { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } أي من سور القرآن { فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً } أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء : أيكم زادته هذه إِيماناً ؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون : أي عجب في هذا وأي دليل في هذا ؟ يقول تعالى { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أي فأما المؤمنون فزادتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم ، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال { وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي ماتوا على الكفر { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي ؟ { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ } أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف ، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا { صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي لقد جاءكم أيها القوم رسول عظيم القدر ، من جنسكم عربي قرشي ، يُبلغكم رسالة الله { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي حريص على هدايتكم { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين ، شديد الشفقة والرحمة عليهم قال ابن عباس : سماه باسمين من أسمائه { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ } أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود سواه { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره { وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء ، لكونه أعظم الأشياء ؛ الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى . البَلاَغَة : 1 - { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ } استعارة تبعية شبه بذلهم الأموال والأنفس وإِثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء . 2 - { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } فيه جناس ناقص لاختلافهما في الشكل وهو من المحسنات البديعية . 3 - { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } يعني المصلون فيه مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل ، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) . 4 - { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الإِظهار في مقام الإِضمار للاعتناء بهم وتكريمهم . 5 - { مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ } بينهما جناس الاشتقاق . 6 - { لِيُضِلَّ … إِذْ هَدَاهُمْ } بينهما طباق وكذلك بين { يُحْيِـي … وَيُمِيتُ } وكذلك { ضَاقَتْ … ورَحُبَتْ } . 7 - { ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } من صيغ المبالغة . 8 - { يَطَأُونَ مَوْطِئاً } جناس الاشتقاق وكذلك { يَنَالُونَ نَّيْلاً } . 9 - { صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } طباق . 10 - { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } قال في تلخيص البيان : السورة لا تزيد الأرجاس رجساً ، ولا القلوب مرضاً ، بل هي شفاء للصدور وجلاء للقلوب ، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمىً ، حسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة . تنبيه : " روي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل ، وبسطت له الحصير ، وقربت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح ! ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ، ومر كالريح فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فإِذا براكب وراء السراب ، فقال : كن أبا خيثمة ! فكان ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له " .