Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 94-110)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لا تزال الآيات تتحدث عن المنافقين ، الذين تخلفوا عن الجهاد وجاءوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة ، وقد ذكر تعالى من مكائد المنافقين " مسجد الضرار " الذي بنوه ليكون وكراً للتآمر على الإِسلام والمسلمين ، وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه ، لأنه لم يشيد على أساس من التقوى ، وإِنما بني ليكون مركزاً لأهل الشقاق والنفاق ، ولتفريق وحدة المسلمين ، وقد اشتهر باسم مسجد الضرار . اللغَة : { ٱنْقَلَبْتُمْ } رجعتم { رِجْسٌ } الرجس : الشيء الخبيث المستقذر ، وقد يطلق على النجس { وَمَأْوَاهُمْ } قال الجوهري : المأوى كل مكان يأوي إِليه ليلاً أو نهاراً { ٱلأَعْرَابُ } جمع أعرابي قال أهل اللغة : يقال رجل عربي إِذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب ، ورجل أعرابي إِذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ ، سواء كان من العرب أو من مواليهم ، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ، ومن نزل البادية فهم أعراب { أَجْدَرُ } أولى وأحق { مََغْرَماً } المغرم : الغرم والخسران وأصله من الغرام وهو لزوم الشيء { مَرَدُواْ } ثبتوا واستمروا وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق ، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها ، وغصن أمرد لا ورق عليه ، وغلام أمرد لا لحية له { مُرْجَوْنَ } الإِرجاء : التأخير يقال : ارجأته أي أخرته ومنه المرجئة لأنهم أخروا العمل { ضِرَاراً } الضرار : محاولة الضر وفي الحديث " لا ضرر ولا ضرار " { إِرْصَاداً } الإِرصاد : الترقب والانتظار يقال أرصدت له كذا إِذا أعددته مرتقباً له به { شَفَا } الشفا : الحرف والشفير ومنه أشفى على كذا إذا دنا منه { جُرُفٍ } : ما تجرفه السيول من الأودية ويبقى على الأطراف طين مشرف على السقوط وأصله من الجرف وهو اقتلاع الشيء من أصله { هَارٍ } ساقط يقال : تهور البناء إِذا سقط وأصله هائر . سَبَبُ النّزول : " روي أن " أبا عامر الراهب " قد تنصر في الجاهلية وترهب ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه لأنه ذهبت رياسته وقال : لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم - وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق - فلما انهزمت هوازن في حنين خرج إِلى الشام ، وأرسل إِلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنو لي مسجداً فإِني ذاهب إِلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه ، فبنوا مسجداً إِلى جانب مسجد قباء ، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إِنا بنينا مسجداً لذي العِلة ، والحاجة ، والليلة المطيرة ، وإِنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فدعا بثوبه ليلبسه فيأتيهم فنزل عليه القرآن ، وأخبر الله رسوله خبر مسجد الضرار وما هموا به ، فدعا صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة وقال لهم : انطلقوا إِلى هذا المسجد الظالم أهله واحرقوه ، فذهبوا إِليه فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله ، وفيه نزلت { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً … } " الآية . التفسِيْر : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي قد أخبرنا الله بأحوالكم وما في ضمائركم من الخبث والنفاق { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد ، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ؟ { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي ثم ترجعون بعد مماتكم إِلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية ، ولا تخفى عليه خافية { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها ، ويجازيكم عليها الجزاء العادل { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ } أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون { إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ } أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة { لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب ، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق قال ابن عباس : يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال : { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي جزاءً لهم على نفاقهم في الدنيا ، وما اكتسبوه من الآثام { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة ، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم قال أبو السعود : ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر ، لجفائهم وقسوة قلوبهم ، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع قال في البحر : وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ، فقد نشأوا كما شاءوا ، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله ، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بخلقه حكيم في صنعه { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً ، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ } جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ } أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته { وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ } أي دعاء الرسول واستغفاره له { أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } { أَلاۤ } أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة ، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة { وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة ، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وعدٌ بالغفران والرضوان أي رضي الله عنهم وأرضاهم ، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون ، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم قال الطبري : رضي الله عنهم لطاعتهم إِياه وإِجابتهم نبيه ، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي مقيمين فيها من غير انتهاء { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه قال في البحر : لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين ، بيّن حال هؤلاء السابقين ، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال { أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } وهنا قال { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } وهناك ختم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهنا ختم { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ } أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } أي لجوا في النفاق واستمروا عليه قال ابن عباس : مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول ، والجلاس ، وأبو عامر الراهب { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين ، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } أي في الدنيا بالقتل والأسر ، وعند الموت بعذاب القبر { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار ، الذي أعده الله للكفار والفجار { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة قال الرازي : هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم ، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي لعل الله يتوب عليهم قال الطبري : وعسى من الله واجب ومعناه : سيتوب الله عليهم ، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي ذو عفوٍ لمن تاب ، عظيم الرحمة لمن أناب { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوضار ، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم قال ابن عباس : { سَكَنٌ لَّهُمْ } رحمة لهم { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لقولهم عليم بنياتهم { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده ، { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } أي يتقبلها ممن أخلص النية { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة ، لقوله { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [ غافر : 3 ] { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله ، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير ، وإِن شراً فشر { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم قال ابن عباس : هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار ، وكانوا من أصحاب بدر ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم والسلام عليهم ، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم ، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا ، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بأحوالهم حكيم فيما يفعله بهم ، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } [ التوبة : 118 ] وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر ، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين ، وقد اشتهر باسم " مسجد الضرار " { وَكُفْراً } أي نصرة للكفر الذي يخفونه { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين ، ويصرفونهم عن مسجد قباء { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله : لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم ، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك : هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون : إِذا رجع أبو عامر صلى فيه ، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان ، من الرفق بالمسكين ، والتوسعة على المصلين { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف ، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد ، ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي من أول يوم ابتدئ في بنائه { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة ، ثم أشار تعالى إِلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ } الاستفهام للإِنكار والمعنى : هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط ؟ { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } أي فسقط به البناء في نار جهنم { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يوفق الظالمين إِلى السداد ، ولا يهديهم سبيل الرشاد ، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص ، والإِيمان ، وعمل أهل النفاق والضلال ، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط ؟ { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار شكٌ ونفاقٌ ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه ، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله ، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين ، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم . البَلاَغَة : 1 - { ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } بين الكلمتين طباق . 2 - { لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } الإِظهار في موضع الإِضمار لزيادة التشنيع والتقبيح وأصله لا يرضى عنهم . 3 - { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } فيه مجاز مرسل أي يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة وهو من إِطلاق الحال وإِرادة المحل . 4 - { عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } بين { صَالِحاً وسَيِّئاً } طباق . 5 - { إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } فيه تشبيه بليغ حيث جعل الصلاة نفس السكن والاطمئنان مبالغة وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً . 6 - { هَارٍ فَٱنْهَارَ } بينهما جناس ناقص وهو من المحسنات البديعية . 7 - { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ } في الكلام استعارة مكنية حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يعتمد عليها البنيان وطوي ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس . تنبيه : كلمة " عسى " من الله واجب قال الإِمام الرازي : وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام ، والسلطان العظيم إِذا التمس المحتاج منه شيئاً فإِنه لا يجيبه إِلا على سبيل الترجي مع كلمة " عسى " أو " لعل " تنبيهاً على أنه ليس لأحدٍ أن يلزمه بشيء ، بل كل ما يفعله فإِنما هو على سبيل التفضل والتطول ، وفيه فائدة أخرى وهو أن يكون المكلف على الطمع والإِشفاق لأنه أبعد من الإِتكال والإِهمال . لطيفَة : روى الأعمش أن أعرابياً جلس إِلى " زيد بن صوحان " وهو يحدث أصحابه - وكانت يده أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي : والله إِن حديثك ليعجبني ، وإِن يدك لتريبني ! فقال زيد : ما يريبك من يدي إِنها الشمال ، فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد : صدق الله { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ … } الآية ، معنى تريبني أي تدخل إِلى قلبي الشك هل قطعت في سرقة وهذا من جهل الأعرابي .