Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 183-184)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يخاطب تعالى المؤمنين من هذه الأُمة ، آمراً إياهم بالصيام ، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع ، بنية خالصةٍ لله عزّ وجلّ ، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها ، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة ، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم ، فلهم فيه أسوة ، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى : { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [ البقرة : 148 ] ، ولهذا قال هٰهنا : { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لأن الصوم فيه تزكية للبدن ، وتضييق لمسالك الشيطان ، ولهذا ثبت في الصحيحين : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج … ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ، ثم بيَّن مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم ، لئلا يشق على النفوس ، فتضعف عن حمله وأدائه ، بل في أيام معدودات ، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه . وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا ، من كل شهر ثلاثة أيام ولم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح ، إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان ، وقال الحسن البصري : لقد كتب الصيام على كل أُمّة قد خلت كما كتب علينا ، شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً . وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم " . وقال عطاء عن ابن عباس : { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } يعني بذلك أهل الكتاب ، ثم بيَّن حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ، لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر ، وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام ، فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام ، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً ، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير ، وإن صام فهو أفضل من الإطعام ، قاله ابن مسعود وابن عباس ، ولهذا قال تعالى : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } إلى قوله : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه ، ثم إن الله عزّ وجلّ أنزل الآية الأُخرى : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] إلى قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخَّص فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له ( صرمة ) كان يعمل صائماً ، حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلَّى العِشاء ثم نام ، فلم يأكل ولم يشرب ، حتى أصبح ، فأصبح صائماً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً ، فقال : " مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً ؟ " قال : يا رسول الله إني عملت أمس ، فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت ، فأصبحت حين أصبحت صائماً ، قال : وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عزّ وجلّ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] - إلى قوله - { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] . وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ، وروي عن ابن عمر قال : هي منسوخة ، وقال السُّدي : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً فكانوا كذلك حتى نسختها : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً . وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف ، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً ، وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على ( عطاء ) في رمضان وهو يأكل فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية فنسخت الأولى ، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر . فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم ، بإيجاب الصيام عليه بقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام ، فله أن يفطر ولا قضاء عليه ، لأنه ليس له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة ؟ فيه قولان ، أحدهما : لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه ، فلم يجب عليه فدية كالصبي ، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي . والثاني : وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم ، وهو اختيار البخاري ، فإنه قال : وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام ، فقد أطعم أَنَسٌ بعد ما كبر عاماً أو عامين ، عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر ، ومما يلتحق بهذا المعنى ( الحامل ) و ( المرضع ) إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ، ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان ، وقيل : يفديان فقط ولا قضاء ، وقيل : يجب القضاء بلا فدية ، وقيل : يفطران ولا فدية ولا قضاء .