Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 282-282)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه : أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين . فقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } ، هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين ، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبّه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } ، وقال مجاهد عن ابن عباس في قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } ، قال : أنزلت في السلم إلى أجل معلوم ، وقال قتادة عن ابن عباس : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ، ثم قرأ : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } رواه البخاري . وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ، وقوله : { فَٱكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ ، فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة ؟ فالجواب أن الدِّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلاً ، لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس ، والسنن أيضاً محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس ، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب ، كما ذهب إليه بعضهم . قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ومن ابتاع فليُشْهد ، وقال قتادة : ذكر لنا أن ( أبا سليمان المرعشي ) كان رجلاً صحب كعباً فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوماً دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع بيعاً إلى أجل فلم يُشْهد ولم يكتب ، فلما حل ماله جحده صاحبه فدعا ربه فلم يستجب له لأنه قد عصى ربه ، وقال الحسن وابن جريج : كان ذلك واجباً ثم نسخ بقوله : " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ " [ البقرة : 283 ] . والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد . قال الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بشهداء أشهدهم ؟ قال : كفى بالله شهيداً . قال : ائتني بكفيل ، قال : كفى بالله كفيلاً ، قال : صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته ، ثم التمس مركباً يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركباً ، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ، ثم زجَّج موضعها ثم أتى بها البحر ، ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلاناً ألف دينار فسألتي كفيلاً فقلت : كفى بالله كفيلاً فرضي بذلك ، وسألني شهيداً فقلت : كفى بالله شهيداً فرضي بذلك ، وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً وإني أستودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف ، وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً تجيئه بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهل حطباً ، فلما كسرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه . قال : هل كنت بعثت إليَّ بشيء ؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل هذا الذي جئت فيه ؟ قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بألفك راشداً . وقوله تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد ، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان . وقوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك ، فكما علَّمه الله ما لم يكن يعلم فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة ، وليكتب كما جاء في الحديث : " إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق " ، وفي الحديث الآخر : " من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " ، وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقوله : { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } ، أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك ، { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } أي لا يكتم منه شيئاً ، { فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً } محجوراً عليه بتبذيره ونحوه { أَوْ ضَعِيفاً } أي صغيراً أو مجنوناً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } إما لعيّ أو جهل بموضع صواب ذلك في خطئه { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } . وقوله تعالى : { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أمر بالاستشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة ، { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } ، وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال ، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقالت : امرأة منهن جزلة : وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار ؟ قال : " تكثرن اللعن وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن " ، قالت : يا رسول الله ما نقصان العقل والدين ؟ قال : " أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل ، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين " " . وقوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود ، وهذا مقيَّد حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط ، وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلاً مرضياً . وقوله : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد . وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } ، قيل : معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة ، وهو قول قتادة والربيع ، وهذا كقوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } ، ومن هٰهنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية ، قيل : وهو مذهب الجمهور والمراد بقوله : { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } للأداء لحقيقة قوله : { ٱلشُّهَدَآءُ } والشاهد حقيقة فيمن تحمل فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت ، وإلا فهو فرض كفاية والله أعلم ، وقال مجاهد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ، وإذا شهدت فدعيت فأجب ، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي ياتي بشهادته قبل أن يُسْألها " ، فأما الحديث الآخر في الصحيحين : " ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا " ، وكذا قوله : " ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وتسبق شهادتهم أيمانهم " ، وفي رواية : " ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون " فهؤلاء شهود الزور . وقوله تعالى : { وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ } هذا من تمام الإرشاد ، وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً ، فقال : { وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ } أي لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله . وقوله : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً ، هو { أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أي أعدل ، { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه كما هو الواقع غالباً ، { وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة . وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } أي إذا كان البيع بالحاضر يداً بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها . فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى : { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } يعني أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن فيه أجل ، فأشهدوا على حقكم على كل حال ، وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] ، وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه ، وإلا بعته ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي قال : أوليس قد ابتعته منك ؟ قال الأعرابي : لا والله ما بعتك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل قد ابتعته منك " فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيداً يشهد أني بايعتك . فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقاً ، حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول هلم شهيداً يشهد أني بايعتك ، قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته ، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال : " بم تشهد " ؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين " ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ ابن مردويه والحاكم في مستدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يدعون إلى الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ، ورجل أقرض رجلاً مالاً فلم يُشهد " . وقوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قيل : معناه لا يضار الكاتب ولا الشاهد فيكتب هذا خلاف ما يُمْلَى ، ويشهد هذا بخلاف ما سمع ، أو يكتمها بالكلية ، وهو قول الحسن وقتادة ، وقيل : معناه لا يُضِرُّ بهما . وقوله تعالى : { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي إن خالفتم ما أمرتم به ، أو فعلتم ما نهيتم عنه فإنه فسق كائن بكم ، أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه ، وقوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره ، { وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ } كقوله : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] ، وكقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] ، وقوله : { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل علمه محيط بجميع الكائنات .