Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 130-136)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة ، كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده في القدر ، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً ، وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة ، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها ، فقال تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات ، فقال تعالى : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي كما أعدت النار للكافرين . وقد قيل : إن في معنى قوله : { عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } تنبيهاً على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] أي فما ظنك بالظهائر ، وقيل : بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش ، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله ، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وسقفها عرش الرحمٰن " وهذه الآية كقوله في ( سورة الحديد ) : { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [ الآية : 21 ] الآية . وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن ( هرقل ) كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم " إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار " " . وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث شاء الله عزّ وجلّ ، وهذا أظهر ، والثاني : أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها ، كما قال الله عزّ وجلّ : { كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [ الحديد : 21 ] والنار في أسفل سافلين ، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار ، والله أعلم . ثم ذكر تعالى صفةَ أهل الجنة فقال : { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ } أي في الشدة والرخاء ، والمنشط والمكره ، والصحة والمرض ، وفي جميع الأحوال ، كما قال : { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [ البقرة : 274 ] ، والمعنى : أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر ، وقوله تعالى : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } ، أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه ، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم ، وقد ورد في بعض الآثار : " يقول تعالى يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت ، اذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الشديد بالصُرَعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " وقال الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله " ، قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال : " اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، مالَكَ من مالِكَ إلا ما قدمت ، وما لوارثك إلا ما أخرت " قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تعدون الصرعة فيكم ! قلنا الذي لا تصرعه الرجال ، قال : " لا ، ولكن الذي يملك نفسه عن الغضب " ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون ما الرقوب " قلنا : الذي لا ولد له ، قال : " لا ، ولكن الرقوب الذي لا يقدم من ولده شيئاً " " . حديث آخر : قال الإمام أحمد ، عن سهل بن معاذ بن أنَس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء " . حديث آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله جوفه أمناً وإيماناً " . فقوله تعالى : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عزّ وجلّ ، ثم قال تعالى : { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم ، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان . وفي الحديث : " ثلاث أقسم عليهن ، ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، ومن تواضع لله رفعه الله " وروى الحاكم في مستدركه ، عن أُبيّ بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ومن سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات ، فليعف عمن ظلمه ، ويعطِ من حرمه ، ويصلْ من قطعه " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول : أين العافون عن الناس ، هلموا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرىء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة " . وقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار . قال الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلاً أذنب ذنباً فقال : رب إني أذنبت ذنباً فاغفره لي ، فقال الله عزّ وجلّ : عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب يأخذ به قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفره ، فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفر لي ، فقال عزَّ وجلَّ : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفره فقال الله عزّ وجلّ عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء " وعن علي رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ؛ وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ، وصدق أبو بكر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عزّ وجلّ ، إلا غفر له " ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " وعن أنَس رضي الله عنه قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية : { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } بكى . وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عليكم بلا إلٰه إلا الله والاستغفار ، فأكثروا منهما فإن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكوني بلا إلٰه إلا الله والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون " وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال إبليس : يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الله تعالى : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني " . وقوله تعالى : { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي لا يغفرها أحد سواه ، وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عزّ وجلّ عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] ، وكقوله : { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] ونظائر هذا كثيرة جداً . ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به : { أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أي جزاؤهم على هذه الصفات { مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي من أنواع المشروبات ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها ، { وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } يمدح تعالى الجنة .