Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 1-7)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نزلت هذه الآيات حين غلب الفرس على بلاد الشام ، وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم ، فاضطر ملك الروم حتى لجأ إلى القسطنطينية وحوصر فيها مدة طويلة ، ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل الكتاب ، فذكر ذلك لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إما إنهم سيلغبون " ، فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلاً ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل أجل خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا جعلتها إلى دون العشر ؟ " ثم ظهرت الروم بعد ، قال فذلك قوله : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } . حديث آخر : عن مسروق قال ، قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِين } قالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ، قال : صدق ، قالوا : هل لك أن نقامرك ، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع ، ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بضع سنين عندكم " ؟ قالوا : دون العشر ، قال : " اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل " قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " وأنزل الله تعالى : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } - إلى قوله - { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } . وقال عكرمة : " لقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } - إلى قوله - { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } فخرج أبو بكر الصدّيق إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم ، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه ( أبي بن خلف ) فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : أناجيك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين ، ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ، ومادَّه في الأجل " ، فخرج أبو بكر ، فلقي أبياً فقال : لعلك ندمت ؟ فقال : لا ، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت ، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك فغلبهم المسلمون " . ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمات ، فقوله تعالى : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السورة في أول سورة البقرة ، وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، ويقال لهم بنو الأصفر ، وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة بافث بن نوح أبناء عم الترك ، وكانوا يعبدون الكواكب السيارة ، وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها ، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة ، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يقال له ( قيصر ) ، فكان أول من دخل في دين النصارى من الروم ( قسطنطين ) ، وأمه مريم الهيلانية من أرض حرَّان كانت قد تنصرت قبله فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفاً ، فتابعها ، واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافاً كثيراً لا ينضبط ، إلاّ أنه اتفق من جماعتهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها ( الأمانة الكبيرة ) وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغيّروا دين المسيح عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه ، فصلوا إلى المشرق ، واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب ، وأحلوا الخنزير ، واتخذوا أعياداً أحدثوها ، كعيد الصليب والقداس ، والغطاس وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساوسة ، ثم الشمامسة ؛ وابتدعوا الرهبانية ، وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاث محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك ؛ ثم حدثت اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة " والغرض أنهم استمروا على النصرانية كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى آخرهم ( هرقل ) وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم وأبعدهم غوراً وأقصاهم رأياً ، فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كثيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وكانوا مجوساً يعبدون النار ، فتقدم عن عكرمة أنه قال : بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ولا أمكنه ذلك لحصانتها ، لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك ، ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع ، فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع . وقوله تعالى : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي من قبل ذلك ومن بعده : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى ، وهم المجوس ، وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كثيرة من العلماء كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم ، وقد ورد في الحديث عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به ، وأنزل الله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } ، وقال الآخرون : بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية ، والأمر في هذا سهل قريب ، إلاّ أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين ، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك لأن الروم أهل كتاب في الجملة فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس ، كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } [ المائدة : 82 ] - إلى قوله - : { رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] . وقال تعالى هٰهنا : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } ، عن العلاء بن الزبير الكلابي عن أبيه قال : رأيت غلبة فارس الروم ، ثم رأيت غلبة الروم فارس ، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة . وقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه ، { ٱلرَّحِيمُ } بعباده المؤمنين ، وقوله تعالى : { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق ، وخبر صدق لا يخلف ، ولا بد من كونه ووقوعه ، لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق ويجعل لها العاقبة ، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل ، وقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } أي أكثر الناس ليس لهم علم إلاّ بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها ، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها ، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة ، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة ، قال الحسن البصري : والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي ، وقال ابن عباس في قوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال .