Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 8-12)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء ، كمن جعل في عنقه غل ، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه ، فارتفع رأسه فصار مقمحاً ، ولهذا قال تعالى : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } والمقمح هو الرافع رأسه ، كما قالت أم زرع في كلامها : وأشرب فأتقمح ، أي أشرب فأروى فأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً ، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين ، كما قال الشاعر : @ فما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني @@ فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر ، لما دل الكلام والسياق عليه ، وهكذا هذا ، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق اكتفى بذكر العنق عن اليدين ، قال ابن عباس : هو كقوله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير ، وقال مجاهد : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } قال : رافعي رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم ، فهم مغلولون عن كل خير ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } ، قال مجاهد عن الحق : { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } عن الحق فهم يترددون ، وقال قتادة : في الضلالات ، وقوله تعالى : { فَأغْشَيْنَاهُمْ } أي أغشينا أبصارهم عن الحق { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه ، قال عبد الرحٰمن بن زيد : جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [ يونس : 96 - 97 ] ، ثم قال : من منعه الله تعالى لا يستطيع ، وقال عكرمة ، قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن فأنزلت : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } - إلى قوله - : { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قال : وكانوا يقولون هذا محمد ، فيقول : أين هو أين هو ؟ لا يبصره . وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب قال : " قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم ، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن ، وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها ، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه ، فجعل يذروها على رؤوسهم ويقرأ : { يسۤ * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } حتى انتهى إلى قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار ، فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمداً ، قال : قد خرج عليكم ، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً ، ثم ذهب لحاجته ، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب ، قال : وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال : " وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه لآخذهم " وقوله تبارك وتعالى : { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } أي قد ختم الله عليهم بالضلالة ، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به . { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون { ٱلذِّكْرَ } وهو القرآن العظيم ، { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى ، يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل ، { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } أي لذنوبه { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي كثير واسع حسن جميل كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] . ثم قال عزّ وجلّ : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } أي يوم القيامة ، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار ، الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة ، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق ، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الحديد : 17 ] ، وقوله تعالى : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } أي من الأعمال ، وفي قوله تعالى : { وَآثَارَهُمْ } قولان : أحدهما : نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم وآثارهم التي أثروها من بعدهم ، فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً " وهكذا الحديث الآخر : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : من علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده " وقال مجاهد في قوله تعالى : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } قال : ما أورثوا من الضلالة ، وقال سعيد بن جبير : { وَآثَارَهُمْ } يعني ما أثروا ، يقول : ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم ، وهذا القول هو اختيار البغوي . والقول الثاني : أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية ، قال مجاهد : { مَاَ قَدَّمُواْ } أعمالهم { وَآثَارَهُمْ } قال : خطاهم بأرجلهم . وقال قتادة : لو كان الله عزّ وجلّ مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار ، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله ، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته ، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل ، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث . الحديث الأول : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد " ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يا بني سلمة : دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم " " الحديث الثاني : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد فنزلت : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن آثاركم تكتب " " فلم ينقلوا . وروى الحافظ البزار ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد فنزلت : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } فأقاموا في مكانهم . الحديث الثالث : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد فنزلت { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } فثبتوا في منازلهم . الحديث الرابع : عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : " توفي رجل بالمدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : " يا ليته مات في غير مولده " فقال رجل من الناس : ولم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة " " وروى ابن جرير عن ثابت قال : مشيت مع أنَس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً ، فلما قضينا الصلاة قال أنَس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي ، فقال يا أنَس أما شعرت أن الآثار تكتب ؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول ، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأَوْلى والأحرى ، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ ، ( والإمام المبين ) هٰهنا هو أم الكتاب ، قاله مجاهد وقتادة وكذا في قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر كما قال عزّ وجلّ : { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ } [ الزمر : 69 ] ، وقال تعالى : { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] .