Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 171-171)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والاطراء ، وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً ، أو ضلالاً أو رشاداً ، أو صحيحاً أو كذباً ، ولهذا قال الله تعالى : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] الآية ، وقال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله " وهكذا رواه البخاري عن الزهري به ولفظه : " فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " ، وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك : أن رجلاً قال : يا محمد ، يا سيدنا ، وابن سيدنا ، وخيرنا ، وابن خيرنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس عليكم بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان : أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجلَّ " ، تفرد به من هذا الوجه . وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً ، تعالى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه ، ولهذا قال : { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه ، قال له كن فكان ، ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عزَّ وجلَّ ، فكان عيسى بإذنه عزَّ وجلَّ ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها ، فنزلت - حتى ولجت فرجها - بمنزلة لقاح الأب والأم ، والجميع مخلوق لله عزَّ وجلَّ ، ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ، لأنه لم يكن له أب تولد منه ، وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان ، والروح التي أرسل بها جبريل . قال الله تعالى : { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } [ المائدة : 75 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [ التحريم : 12 ] إلى آخر السورة . وقال تعالى إخباراً عن المسيح : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [ الزخرف : 59 ] الآية ، وقال قتادة : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } هو كقوله : { كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] . وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول الله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } قال : ليس الكلمة صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى ، وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله { أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي أعلمها بها كما زعمه في قوله : { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } [ آل عمران : 45 ] أي يعلمك بكلمة منه ، ويجعل ذلك كقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] ، بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام ، وقال البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وإن الجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " وقوله في الآية والحديث : " وروح منه " ، كقوله : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] أي من خلقه ومن عنده وليست ( من ) للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة ، بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى ، وقد قال مجاهد في قوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي ورسول منه ، وقال غيره : ومحبة منه ، والأظهر الأول ، وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : { هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ } [ الأعراف : 73 ، هود : 64 ] ، وفي قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وكما روي في الحديث الصحيح : " فأدخل على ربي في داره " ، أضافها إليه إضافة تشريف وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد . وقوله تعالى : { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي فصدقوا بأن الله واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة ، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وهذه الآية والتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ المائدة : 73 ] ، وكما قال في آخر السورة المذكورة : { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي } [ المائدة : 116 ] الآية . وقال في أولها : { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } [ المائدة : 17و72 ] الآية ، والنصارى عليهم لعائن الله من جهلهم ليس لهم ضابط ، ولا لكفرهم حد ، بل أقوالهم وضلالهم منتشر ، فمنهم من يعتقده إلهاً ، ومنهم من يعتقده شريكاً ، ومنهم من يعتقده ولداً ، وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة ، وأقوال غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً . ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو ( بترك الاسكندرية ) في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية ، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم - وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة - وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة ، وأنهم اختلفوا عليه اختلافاً لا ينضبط ولا ينحصر ، فكانوا أزيد من ألفين أسقفاً ، فكانوا أحزاباً كثيرة كل خمسين منهم على مقالة ، وعشرون على مقالة ، ومائة على مقالة وسبعون على مقالة وأزيد من ذلك وأنقص ، فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر وقد توافقوا على مقالة ، فأخذها الملك ونصرها وأيدها ، وكان فيلسوفاً داهية ، ومحق ما عداها من الأقوال وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر وبنيت لهم الكنائس ، ووضعوا لهم كتباً وقوانين وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها ، وأتباع هؤلاء هم ( الملكانية ) ، ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانياً فحدث فيهم ( اليعقوبية ) ، ثم مجمعاً ثالثاً فحدث فيهم ( النسطورية ) وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم ، هل اتحدوا أو ما اتحدوا ، أو امتزجا أو حل فيه ؟ على ثلاث مقالات ، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ، ونحن نكفر الثلاثة ، ولهذا قال تعالى : { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } أي يكن خيراً لكم ، { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً . { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد كما قال في الآية الأخرى : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ] الآية ، وقال تعالى : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 88 - 89 ] الآيات .