Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 77-79)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة ، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ، ولم يكن الحال إذا ذاك مناسباً لأسباب كثيرة : منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال ، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه ، جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفاً شديداً : { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء ، ويتم الأولاد ، وتأَيَّمَ النساء ، وهذه الآية كقوله تعالى : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ } [ محمد : 20 ] الآيات . عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمٰن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا يا نبي الله : " كنا في عزة ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة قال : " إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ } الآية . وقال السدي : لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ، فلما فرض عليهم القتال { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } وهو الموت ، قال الله تعالى : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } أي آخرة المتقي خير من دنياه { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي من أعمالكم ، بل توفونها أتم الجزاء ، وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الآخرة وتحريض لهم على الجهاد ، وقال ابن أبي حاتم عن هشام قال : قرأ الحسن { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } قال : رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ، ثم انتبه . وقال ابن معين : كان أبو مصهر ينشد : @ ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من اللَّه في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها متاع قليل والزوال قريب @@ وقوله تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] الآية ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ، الأنبياء : 35 ، العنكبوت : 57 ] ، وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] ، والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلاً محتوماً ، ومقاماً مقسوماً ، كما قال ( خالد بن الوليد ) حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفاً ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء . وقوله : { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي حصينة منيعة عالية رفيعة ، أي لا يغني حذر وتحصن من الموت كما قال زهير بن أبي سلمى : @ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسُلَّم @@ ثم قيل : المُشَيَّدة هي المَشِيْدة كما قال ( وقصر مشيد ) ، وقيل : بل بينهما فرق وهو أن المشيّدة بالتشديد هي المطولة ، وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص . وقوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك ، هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك { يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك ، كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] الآية . وهكذا قال هؤلاء المنافقون ، الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كارهون له في نفس الأمر ، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقال السدي { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال ، والحسنة : الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان ، وقالوا : { هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة : الجدب والضرر في أموالهم تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : { هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } يقولون بتركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ، { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } فقوله : قل كل من عند الله أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر ، قال ابن عباس : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي الحسنة والسيئة وكذا قال الحسن البصري . ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب ، وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } ؟ . ثم قال تعالى مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } أي من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته ، { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } أي فمن قبلك ، ومن عملك أنت ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . قال السدي : { فَمِن نَّفْسِكَ } أي بذنبك ، وقال قتادة في الآية : { فَمِن نَّفْسِكَ } عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك ، قال : وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر " ، وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلاً في الصحيح ، " والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن ، ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه " ، وقال أبو صالح { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك رواه ابن جرير . وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } أي تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضاً بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفراً وعناداً .