Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 57-65)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى مخبراً عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } . قال ابن عباس أي ( يضحكون ) أعجبوا بذلك ، وقال قتادة : يجزعون ويضحكون ، وقال النخعي : يعرضون ، وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في " السيرة " حيث قال : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] الآيات ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب ، وما قعد ، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته ، سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم ؛ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عزّ وجلّ ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه يعبد من دون الله { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله ، ثم ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فقال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي ما وضع على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلاً على علم الساعة يقول : { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير " فقالوا له : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً فقد كان يعبد من دون الله ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } " ، وقال مجاهد في قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } ، قالت قريش : إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى ( عيسى ) عليه السلام ، وقوله : { وَقَالُوۤاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } ؟ قال قتادة : يقولون آلهتنا خير منه ، وقال قتادة : قرأ ابن مسعود رضي الله عنه : { وَقَالُوۤاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هذا } ؟ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم . وقوله تبارك وتعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } أي مِراءً وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية لأنها لما لا يعقل وهي قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ثم هي خطاب لقريش ، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد ، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلاً منهم ليسوا يعتقدون صحتها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا إلا أورثوا الجدل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } . وروى ابن جرير ، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن ، فغضب غضباً شديداً حتى كأنما صب وجهه الخل ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل " ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } " ، وقوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } يعني عيسى عليه الصلاة والسلام ما هو إلا عبد من عباد الله عزَّ وجلَّ أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي دلالة وحجة وبرهاناً على قدرتنا على ما نشاء ، وقوله عزَّ وجلَّ : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ } أي بدلكم { مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } ، وقال السدي : يخلفونكم فيها ، وقال ابن عباس وقتادة : يخلف بعضهم بعضاً كما يخلف بعضكم بعضاً ، وهذا القول يستلزم الأول ، وقال مجاهد : يعمرون الأرض بدلكم . وقوله سبحانه وتعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } تقدم تفسير ابن إسحاق أن المراد من ذلك ما بعث به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الأسقام وفيه نظر . الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإن السياق في ذكره ، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة ، كما قال تبارك وتعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام ، ثُم { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } [ النساء : 159 ] ويؤيد هذا المعنى القراءة الأُخْرى { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي أمارة ودليل على وقوع الساعة ، قال مجاهد : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً ، وقوله تعالى : { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي لا تشكوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة ، { وَٱتَّبِعُونِ } أي فيما أخبركم به { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ } أي عن اتباع الحق ، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ } أي بالنبوة ، { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } قال ابن جرير : يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية ، وهذا الذي قاله حسن جيد ، وقوله عزّ وجلّ { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي فيما أمركم به { وَأَطِيعُونِ } فيما جئتكم به ، { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي وأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه مشتركون في عبادته وحده لا شريك له ، { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جلّ وعلا وحده وقوله سبحانه وتعالى : { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } أي اختلف الفرق وصاروا شيعاً فيه ، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق ، ومنهم من يدعي أنه ولد الله ، ومنهم من يقول إنه الله ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، ولهذا قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } .