Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 27-31)
Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم وهما ( قابيل وهابيل ) ، كيف عدا أحدهم على الآخر ، فقتله بغياً عليه وحسداً له ، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عزَّ وجلَّ ، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة ، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين ، فقال تعالى : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ } أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم . وهما ( هابيل وقابيل ) فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف . وقوله : { بِٱلْحَقِّ } أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب ، ولا وهم ولا تبديل ، ولا زيادة ولا نقصان ، كقوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } [ آل عمران : 62 ] ، وقوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ } [ الكهف : 13 ] ، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف ، أن الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ، ولكن قالوا : كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت ( هابيل ) دميمة وأخت ( قابيل ) وضيئة ، فأراد أن يستأثر بها على أخيه ، فأبى آدم ذلك إلاّ أن يقربا قرباناً ، فمن تقبل منه فهي له ، فتقبل من هابيل ، ولم يتقبل من قابيل ، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه . قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود : أنه كان لا يولد لآدم مولود إلاّ ومعه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر . حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل ، وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه ، وقال هي أختي ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوج بها ، وأنهما قربا قرباناً إلى الله عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية ، قرب هابيل جذعة سمينة ، وقرب قابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها ، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب ، وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ، فقال هابيل : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } . وقال ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال : إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، كان أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً ، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه ، وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكوزن والزوان ، غير طيبة بها نفسه ، وإن الله عزَّ وجلَّ تقبل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث ، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه ، قال : وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه . وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل ، فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن من ولادة الجنة ، وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحق بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك ، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه ، قال له أبوه : يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها ، وكان قابيل على بذر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرب قابيل قمحاً ، وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه ، وبعضهم يقول : قرب بقرة ، فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله . رواه ابن جرير ، ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل ، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل ، وأنه تقبل من هابيل شاته ، حتى قال ابن عباس وغيره : إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب ، والله أعلم . ولم يتقبل من قابيل ، كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً . ومعنى قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي ممن اتقى الله في فعله ذلك . وفي الحديث عن معاذ بن جبل ، قال : يحبس الناس في بقيع واحد ينادي مناد ، أي المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر ، قلت : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان ، وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة . وقوله تعالى : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه ، حين توعده أخوه بالقتل عن غير ما ذنب منه إليه { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله ، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب ، قال عبد الله بن عمرو : وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " وقال الإمام أحمد عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال ، عند فتنة عثمان : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي " قال : أفرأيت إن دخل على بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني ؟ فقال : " كن كابن آدم " قال أيوب السختياني : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، رواه ابن أبي حاتم . وقوله تعالى : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } قال ابن عباس ومجاهد : أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك ، وقال آخرون : يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي . عن مجاهد { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً . ( قلت ) : وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له " ما ترك القاتل على المقتول من ذنب " . وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال عن عائشة ، قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الصبر لا يمر بذنب إلاّ محاه " ، وهذا بهذا لا يصح ، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه ، فأما أن تحمل على القاتل فلا ، ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب ، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات ، فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته ، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلاّ وضعت على القاتل . وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم . فإن قيل : كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله ؟ والجواب أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه . وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ وزجراً له لو انزجر ، ولهذا قال : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي تتحمل إثمي وإثمك { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } وقال ابن عباس : خوَّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر . وقوله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي فحسنت وسولت له نفسه وشخصه على قتل أخيه فقتله أي بعد هذه الموعظة ، وهذا الزجر . وقد تقدم أنه قتله بحديدة في يده ، وقال السدي : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال ، فأتاه يوماً من الأيام ، وهو يرعى غنماً له ، وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات ، فتركه بالعراء . رواه ابن جرير . وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع . وقال ابن جرير : لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه ، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها ، وابن آدم ينظر ، ففعل بأخيه مثل ذلك . وقال عبد الله بن وهب : أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله ، فجاءه إبليس فقال : أتريد أن تقتله ، قال : نعم ، قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه ، قال : فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه ، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً ، فقال : يا حواء إن قابيل قتل هابيل فقالت له : ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال : لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ، قالت : ذلك الموت ؟ قال : فهو الموت ، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح ، فقال : ما لك ؟ فلم تكلمه فرجع إليها مرتين فلم تكلمه ، فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك ، وأنا وبني منها برآء . رواه ابن أبي حاتم . وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي في الدنيا والآخرة ، وأي خسارة أعظم من هذه . عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقتل نفس ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل " ، وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود . وقوله تعالى : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } قال السدي : لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثى عليه ، فلما رآه قال : { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } ؟ وقال ابن عباس : جاء غراب إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } ، وقال الضحاك عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين فرآهما يبحثان فقال : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ } فدفن أخاه . وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله عزَّ وجلَّ : يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيباً ، فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن ، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها ، فتلقت دم أخيك من يدك ، فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها ، حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض . وقوله تعالى : { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران . فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة ، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه كما هو ظاهر القرآن ، وكما نطق به الحديث في قوله : " إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل " ، وهذا ظاهر جلي . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم " ، والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة ، كما ذكره مجاهد وابن جبير : أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به . وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " ، وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .