Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 50, Ayat: 16-22)

Tafsir: Muḫtaṣar tafsīr Ibn Kaṯīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأن علمه محيط بجميع أموره ، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر ، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل " وقوله عزّ وجلّ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه ، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإجماع تعالى الله وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد ، وإنما قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } كما قال في المحتضر { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 85 ] يعني ملائكته ، فالملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه ، بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك ، فللملك لمَّة من الإنسان كما أن للشيطان لمة ، ولهذا قال تعالى هٰهنا { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } أي مترصد ، { مَّا يَلْفِظُ } أي ابن آدم { مِن قَوْلٍ } أي ما يتكلم بكلمة { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي إلاّ ولها من يرقبها ، معد لذلك يكتبها ، لا يترك كلمة ولا حركة ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الإنفطار : 10 - 12 ] وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام ، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب على قولين : وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } . وقد روى الإمام أحمد ، عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجلَّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه " فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث ، وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال ، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها ، وقال الحسن البصري ، وتلا هذه الآية { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقال لك : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] ثم يقول : " عَدَل والله فيك من جعلك حسيب نفسك " . وقال ابن عباس { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر ، حتى أنه ليكتب قوله : أكلت ، شربت ، ذهبت ، جئت ، رأيت . حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله ، فأقَّر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره ، وذلك قوله تعالى : { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [ الرعد : 39 ] وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه ، فبلغه عن طاووس أنه قال : يكتب الملك كل شيء حتى الأنين ، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله ، وقوله تبارك وتعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } يقول عزَّ وجلَّ : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص . والصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو ، وقيل : الكافر ، وقيل غير ذلك ، روي أنه لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت : @ لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر @@ فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه : ليس كذلك ، ولكن قولي : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : " سبحان الله إن للموت لسكرات " وفي قوله : { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } قولان : ( أحدهما ) : أن ( ما ) هٰهنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتفر ، وقد حلَّ بك ونزل بساحتك . ( والقول الثاني ) : أن ( ما ) نافية بمعنى : ذلك ما كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه . وقوله تبارك وتعالى : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور وذلك يوم القيامة ، وفي الحديث ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحَنَى جبهته وانتظر أن يؤذن له " . قالوا : يا رسول الله كيف نقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل " ، فقال القوم : حسبنا الله ونعم الوكيل " { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أي ملك يسوقه إلى المحشر ، وملك يشهد عليه بأعماله ، هذا هو الظاهر من الآية الكريمة وهو اختيار ابن جرير ، لما روي عن يحيى بن رافع قال : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الآية { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } فقال : سائق يسوقها إلى الله تعالى ، وشاهد يشهد عليها بما عملت ، وكذا قال مجاهد وقتادة ، وقال أبو هريرة : السائق الملك ، والشهيد العمل ، وكذا قال الضحّاك والسدي ، وقال ابن عباس : السائق من الملائكة ، والشهيد الإنسان نفسه يشهد على نفسه . وبه قال الضحاك أيضاً . وقوله تعالى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } قيل : إن المراد بذلك الكافر . وقيل : إن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر ، لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة ، والدنيا كالمنام ، وهذا اختيار ابن جرير ، والظاهر من السياق أن الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله تعالى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } يعني من هذا اليوم ، { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي قوي ، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصراً ، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك ، قال الله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وقال عزّ وجلّ : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] .