Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 106-108)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 2 ] النسخ في القرآن التحليل اللفظي { نَنسَخْ } : النسخُ يأتي بمعنى ( الإزالة ) تقول العرب : نسخت الشمسُ الظلّ أي أزالته ، ومنه قوله تعالى : { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ } [ الحج : 52 ] أي يزيل ما يلقيه الشيطان . ويأتي بمعنى ( النقل ) من موضع ، ومنه قولهم : نسختُ الكتاب أي نقلت ما فيه من مكان إلى مكان أي نقلته إلى كتاب آخر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] . ويأتي بمعنى ( التبديل ) تقول : نسخَ القاضي الحكم أي بدّله وغيّره ، ونسخ الشارع السورة أو الآية أي بدّلها بآية أخرى ، وإليه يشير قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] . ويأتي بمعنى ( التحويل ) كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد ، هذا من حيث اللغة . وأما في الشرع : فهو انتهاء الحكم المستنبط من الآية وتبديله بحكم آخر ، وقد عرّفه الفقهاء والأصوليون بتعريفات كثيرة نختار منها أجمعها وأخصرها ، وهو ما اختاره ابن الحاجب حيث قال رحمه الله : " النسخ : هو رفع الحكم الشرعي ، بدليل شرعيّ متأخر " . { نُنسِهَا } : نُنسها من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب ، فالنسيان بمعنى الذهاب من الذاكرة وهو مروي عن قتادة . وقيل : من النسيان بمعنى الترك على حدّ قوله تعالى : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] أي تركوا أمره فتركهم في العذاب . ومنه قوله تعالى : { قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [ طه : 126 ] وهو مروي عن ابن عباس . قال ابن عباس : أي نتركها فلا نبدّلها ولا ننسخها . وحكى الأزهري : نُنْسها : أي نأمرُ بتركها ، يقال : أنسيتُه الشيء أي أمرتُ بتركه ، ونسيتُه تركته ، قال الشاعر : @ إنّ عليّ عُقْبَة أقضيها لستُ بناسِيْها ولا مُنْسِيها @@ وأما قراءة ( نَنْسَأها ) بالهمز ، فهو من النسأ بمعنى التأخير ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } [ التوبة : 37 ] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة . وقال أهل اللغة : أنسأ الله أجله ، ونسأ في أجله ، أي أخرّ وزاد . قال الألوسي : " وقرئ ( ننسأها ) وأصلها من نسأ بمعنى أخّر ، والمعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها ، أو نُبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها ، وهو معنى ( نُنْسها ) فتتحّد القراءتان " . { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } : أي بأفضل منها ، ومعنى فضلها : سهولتها وخفتها . والمعنى : نأت بشيء هو خير للعباد منها ، أو أنفع لهم في العاجل والآجل . قال القرطبي : لفظة " خير " هنا صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية . { وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } : الوليّ معناه القريب والصديق ، مأخوذ من قولهم : وليتُ أمر فلان أي قمتُ به ، ومنه وليّ العهد : أي القيّم بما عهد إليه من أمر المسلمين . والنصيرُ : المعين مأخوذ من قولهم : نصره إذا أعانه . قال الإمام الفخر : وأمّا الولي والنصير فكلاهما ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) على وجه المبالغة . والمعنى : ليس لكم ناصر يمنعكم من العذاب . { أَمْ تُرِيدُونَ } : " أم " تأتي : متصلة ، ومنقطعة ، فالمتصلة هي التي تقدمها همزة استفهام كقوله تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] وأما المنقطعة فهي بمعنى ( بل ) كقول العرب ( إنها لإبل أم شاء ) كأنه قال : بل هي شاء ، ومنه قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } [ السجدة : 3 ] أي بل يقولون . ومثله قول الأخطل : @ كذبتكَ عينكَ أم رأيت بواسطٍ غلسَ الظَّلام من الربَابِ خيَالاً @@ قال القرطبي : " هذه ( أم ) المنقطعة التي بمعنى بل ، أي بل أتريدون ومعنى الكلام التوبيخُ " . { يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ } : يقال : بدّل ، وتبدّل ، واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر ، والمراد اختيار الكفر بدل الإيمان كما قال تعالى : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } [ البقرة : 175 ] . { سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } : السواءُ من كل شيء : الوسطُ ، ومنه قوله تعالى : { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 55 ] أي وسط الجحيم . والسبيلُ في اللغة : الطريقُ ، والمراد به طريق الاستقامة . ومعنى الآية : من يختر الكفر والجحود بالله ويفضله على الإيمان ، فقد حاد عن الحق ، وعدل عن طريق الاستقامة ، ووقع في مهاوي الردي . وجه الارتباط بالآيات السابقة بعد أن بيّن سبحانه وتعالى حقيقة الوحي ، ورق على المكذّبين به والكارهين له جملةً وتفصيلاً ، ذكر هنا سرَّ النسخ ، وأبطل مقال الطاعنين فيه ، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يكون فيه من المصلحة للعباد ، ثمّ ينهى عنه لما يرى فيه من الخير لهم ، فهو أعلم بمصالح عباده ، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبّدهم بها ، وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال ، والأزمنة والأشخاص ، فينبغي تسليم الأمر لله ، وعدم الاعتراض عليه ، لأنه هو الحكيم العليم . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } : أي ما نبدّل من حكم آية فنغيّره ، أو نترك تبديله فنقره بحاله ، نأت بخير لكم منها - أيها المؤمنون - في العاجل أو الآجل إمّا برفع مشقة عنكم ، أو بزيادة الأجر لكم والثواب ، أو بمثلها في الفائدة للعباد ، ألم تعلموا أيها الناس أن الله عليم ، حكيم ، قدير ، لا يصدر منه إلا كل خير وإحسان ، وأنه - جل وعلا - شرع هذه الملة الحنيفية السمحة ، ليرفع عن عباده الأغلال والآصار ؟ ! فلا تظنّوا أنّ تبديله للأحكام لعجزٍ في القدرة ، أو جهل في المصلحة ، وإنما تغييرها يرجع إلى منفعة العباد ، فهو المالك المتصرف في شؤون الخلق ، يحكم بما شاء ، ويأمر بما شاء ، ويبدّل وينسخ الأحكام حسب ما يريد ، وما لكم أيها الناس سوى وليّ يرعى شؤونكم ، أو ناصر ينصركم ، فلا تثقوا بغيره ، ولا تعتمدوا إلا عليه ، فهو نعم الناصر والمعين . أتريدون - أيها المؤمنون - أن تسألوا رسولكم ، نظير ما سأل قوم موسى من قبل ؟ ! فتضلّوا كما ضلّوا ، ويكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا نبيّهم تعنتاً واستكباراً فقالوا : { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] وطلبوا منه ما لا يسوغ طلبه حيث قالوا : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] فهل يليق بكم أن تتعنتوا مع نبيكم ، وتقترحوا عليه ما تشتهون ، فتصبحوا كاليهود الضالين ؟ ! ومن يستبدل الكفر بالإيمان ، والضلالة بالهدى ، فقد حاد عن الجادة ، وعدل عن طريق الاستقامة ، وتردّى في مهاوي الهلاك ، وخسر نفسه حيث عرّضها لعذاب الله الأليم . سبب النزول أ - روي أن اليهود قالوا : ألا تعجبون لأمر محمد ! ؟ يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه ، يناقض بعضه بعضاً فنزلت { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا … } الآية . ب - روي الفخر الرازي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقالوا يا محمد : والله لا نؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً من الله أنك رسوله فأنزل الله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ … } [ البقرة : 108 ] . ج - وروي عن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقال : نعم ، وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم ، فأبوا ورجعوا فأنزل الله { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ … } . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } بفتح النون من نسخ الثلاثي ، وقرأ ابن عامر ( نُنْسخ ) بضم النون وكسر السين من أنسخ الرباعي . قال الطبرسي : " لا يخلو من أن يكون ( أَفْعل ) لغة في ( فَعَل ) نحو بدأ وأبدأ ، وحلّ من إحرامه وأحلّ ، أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته ، والوجه الصحيح هو الأول وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ ، وقول من فتح النون ( نَنْسخ ) أبينُ وأوضح . 2 - قرأ الجمهور ( نُنْسِها ) بضم النون الأولى وكسر السين من النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( نَنْسأها ) بفتح النون والسين وإثبات الهمزة من النسأ وهو التأخير من قولهم : نسأتُ الإبل عن الحوض إذا أخرتها ، ومنه قولهم : أنسأ الله أجلك . وجوه الأعراب 1 - قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } . قال ابن قتيبة : أراد أو ( نُنْسكها ) من النسيان . ( ما ) شرطية جازمة و ( ننسخ ) مجزوم لأنه فعل الشرط ، و ( مِنْ ) صلة تأدباً ، و ( آية ) مفعول لـ ( ننسخ ) والمعنى : ما ننسخ آيةً قال ابن مالك : @ وزيدَ في نفي وشبهِهِ فجَرّ نكرةً كما لباغٍ من مفر @@ و ( نُنسها ) معطوف على ( ننسخ ) والمعطوف على المجزوم مجزوم ، و ( نأت ) جواب الشرط حذف منه حرف العلة ، و ( بخيرٍ ) جار ومجرور متعلق بنأت . قال العكبري : ومن قرأ بضم النون ( نُنْسها ) حمله على معنى نأمرك بتركها وفيه مفعول محذوف والتقدير : نُنْسكها . 2 - قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] والخطابُ للنبي عليه الصلاة والسلام ، وقوله تعالى : { أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سادّ مسدّ مفعولي ( تعلم ) عند الجمهور ، ومحل المفعول الأول عند الأخفش ، والمفعول الثاني محذوف . 3 - قوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } أم منقطعة للإضراب ومعناها ( بل ) والتقدير : بل أتريدون ، { كَمَا سُئِلَ } الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي سؤالاً كسؤال ، و ( ما ) مصدرية . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : ذكر الله تعالى النسخ في القرآن ، وبيّن حكمته ، وهو الإتيان بما هو خير للعباد ، والخيرية تحتمل وجهين : الأول : ما هو أخف على البشر من الأحكام . الثاني : ما هو أصلح للناس من أمور الدنيا والدين . قال القرطبي : والثاني أولى لأنه سبحانه يصرّف المكلّف على مصالحه ، لا على ما هو أخف على طباعه ، فقد ينسخ الحكم إلى ما هو أشد وأثقل ، كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وذلك لخير العباد ، لأنه يكون أكثر ثواباً ، وأعظم جزاءً ، فتبيّن أنّ المراد بالخيرية ما هو أصلح للعبد . اللطيفة الثانية : أنكر بعض العلماء أن تحمل الآية ( أو نُنْسها ) على النسيان ضد الذكر ، لأنّ لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تكفّل الله جلت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] ، فهذه الآية تعارض التفسير السابق الذي ذهب إليه المفسّرون . والجواب كما قال ابن عطية : أن هذا النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله أن ينساه جائز شرعاً وعقلاً ، وأمّا النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده حتى يحفظه بعض الصحابة ، ومن هذا ما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة ، فلما فرغ منها قال : أفي القوم أُبيّ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فلِمَ لم تذكرني ؟ قال : خشيت أن تكون قد رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترفع ولكني نسيتها " . اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } المراد بالخيرية هنا الأفضلية يعني في ( السهولة والخفة ) وليس المراد الأفضلية في ( التلاوة والنظم ) لأن كلام الله تعالى لا يتفاضل بعضه عن بعض ، إذ كلّه معجز وهو كلام ربّ العالمين . قال القرطبي : " لفظة ( خير ) هنا صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كان مستوية ، وليس المراد بـ ( أخير ) التفضيل ، لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [ النمل : 89 ] أي فله منها خير أي نفع وأجر " . وقال أبو بكر الجصاص : " ( بخيرٍ منها ) في التسهيل والتيسير كما روي عن ابن عباسٍ وقتادة ، ولم يقل أحد من العلماء خير منها في التلاوة ، إذ غير جائز أن يقال : إنّ بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم ، إذ جميعه معجز كلام الله " . اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؟ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته بدليل قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أو المراد هو وأمته وإنمّا أفرد عليه السلام لكونه إمامهم ، وقدوتهم ، كقوله تعالى : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] فتخاطب الأمة في شخص نبيّها الكريم باعتباره الإمام والقائد . ووضعُ الاسم الجليل موضع الضمير ( أنّ الله ) و ( من دون الله ) لتربية الروعة والمهابة في نفوس المؤمنين ، والإشعار بأن شمول القدرة من مظاهر الألوهية والعظمة الربانية ، وكذا الحال في قوله جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . قال العلامة أبو السعود : والمعنى : ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر ، والاستيلاء الباهر ، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً ، وأمراً ونهياً ، حسبما تقتضيه مشيئته ، لا معارض لأمره ، ولا معقّب لحكمه . اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } معنى { دُونِ ٱللَّهِ } أي سوى الله كما قال أمية بن أبي الصلت : @ يا نفسُ مالكِ دونَ اللهِ من واق وما على حدثان الدهر من باق @@ قال في " الفتوحات الإلٰهية " : " وقوله : { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أتى بصيغة فعيل في { وَلِيٍّ } و { نَصِيرٍ } لأنها أبلغ من فاعل والفرقُ بين الولي والنصير ، أن الوليّ قد يضعف عن النّصرة ، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور ، فبينهما عموم وخصوص من وجه " . اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } السّواء : هو الوسط من كل شيء ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الطريق المستوي يعني المعتدل ، ومعنى ( ضل ) أي أخطأ ، وفي هذا التعبير نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل ، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل النسخ جائز في الشرائع السماوية ؟ قال الإمام الفخر : النسخ عندنا جائز عقلاً ، واقع سمعاً ، خلافاً لليهود ، فإنّ منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوّزه عقلاً ، لكنْ منع منه سمعاً ، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ . واحتج الجمهور : من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ، أنّ الدلائل دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّتُه لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنسخ . وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة ، وفي نفس شريعة اليهود ، فإنه جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك باتفاق . قال الجصاص في تفسيره " أحكام القرآن " : ( زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقة ، أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين ، كالسبت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب ، قال لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء ، وشريعته باقية البتة إلى أن تقوم الساعة ، وقد بعد هذا القائل من التوفيق بإظهار هذه المقالة ، إذ لم يسبقه إليها أحد ، بل قد عقلت الأمة سلفُها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ، ونقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به ، ولا يجيزون فيه التأويل ، وقد ارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة ، مع تعسف المعاني واستكراهها ، وأكثر ظني فيه أنه إنما أُتي به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك ، واستعمال رأيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ، ونقلته الأمة … ) . دليل أبي مسلم : أ - احتجّ أبو مسلم بأنّ الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] فلو جاز النسخ لكان قد أتاه الباطل . ب - كما تأول الآية الكريمة { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } على أن المراد بها نسخ الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، أو المراد بالنسخ النقلُ من اللوح المحفوظ وتحويله إلى سائر الكتب . جـ - وقال : إن الآية السابقة لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خيرٍ منه . والجواب عن الأول : أن المراد أن هذا الكتاب لا يدخل إليه التحريف والتبديل ، ولا يكون فيه تناقض أو اختلاف { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . وأما الثاني والثالث : فإنه تأويل ضعيف لا تقوم به حجة ، ويناقض الواقع فقد نسخت كثيراً من الأحكام الشرعية بالفعل كنسخ القبلة ، ونسخ عدة المتوفى عنها زوجها إلى آخر ما هنالك مما سنبينه إن شاء الله من التفضيل . أدلة الجمهور : واستدل الجمهور على وقوع النسخ بحجج كثيرة نوجزها فيما يلي : الحجة الأولى : قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا … } فهذه الآية صريحة في وقوع النسخ . الحجة الثانية : قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ … } [ النحل : 101 ] قالوا : إن هذه الآية واضحة كل الوضوح في تبديل الآيات والأحكام ، والتبديلُ يشتمل على رفعٍ وإثبات ، والمرفوع إمّا التلاوة ، وإمّا الحكم ، وكيفما كان فإنه رفع ونسخ . الحجة الثالثة : قوله تعالى : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا … } [ البقرة : 142 ] ثم قال تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 144 ] فقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ، ثمّ نسخ ذلك وأُمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام . الحجة الرابعة : أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً في قوله جلّ ذكره { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ … } [ البقرة : 240 ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] . الحجة الخامسة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] فهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثير تدل على وقوع النسخ فلا مجال للإنكار بحالٍ من الأحوال ، ولهذا أجمع العلماء على القول بالنسخ ، حتى روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال لرجلٍ : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكتَ وأهلكت الناس . قال العلامة القرطبي : ( معرفة هذا الباب أكيدة ، وفائدته عظيمة ، لا تستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام ، وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة ) . ثم قال : " لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء ، قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمآل الأمور ، وأمّا العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته ، لا إلٰه إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغيّر ، فإنّ ذلك محال في جهة الله تعالى " . الحكم الثاني : ما هي أقسام النسخ في القرآن الكريم ؟ ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام : الأول : نسخ التلاوة والحكم معاً . الثاني : نسخ التلاوة مع بقاء الحكم . الثالث : نسخ الحكم وبقاء التلاوة . أما الأول : وهو ( نسخ التلاوة والحكم ) فلا تجوز قراءته ، ولا العمل به ، لأنه قد نسخ بالكلية فهو كآية التحريم بعشر رضعات … روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( كان فيما نزل من القرآن " عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن " فنسخن بخمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن ) . قال الفخر الرازي : فالجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة ، والجزء الثاني ، وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية . وأما الثاني : ( نسخ التلاوة وبقاء الحكم ) فهو كما قال الزركشي في " البرهان " : يُعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ، كما روي أنه كان في سورة النور ( الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) . ولهذا قال عمر : ( لولا أن يقال الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها بيدي ) . وأخرج ابن حيان : في " صحيحه " عن ( أُبيّ بن كعب ) رضي الله عنه أنه قال : " كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور - أي في الطول - ثمّ نسخت آيات منها " . وهذان النوعان : ( نسخ الحكم والتلاوة ) و ( نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ) قليل في القرآن الكريم ، ونادر أن يوجد فيه مثل هذا النوع ، لأن الله سبحانه أنزل كتابه المجيد ليتعبّد الناس بتلاوته ، وبتطبيق أحكامه . وأما الثالث : ( نسخ الحكم وبقاء التلاوة ) فهو كثير في القرآن الكريم ، وهو كما قال ( الزركشي ) في ثلاث وستين سورة … ومن أمثلة هذا النوع آية الوصية ، وآية العدة ، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والكف عن قتال المشركين … الخ . وقد ألّف الشيخ هبة الله بن سلامة " رسالة في الناسخ والمنسوخ " جاء فيها ما نصه : " اعلم أن أول النسخ في الشريعة أمرُ الصلاة ، ثم أمرُ القبلة ، ثم الصيام الأول ، ثم الإعراض عن المشركين ، ثم الأمر بجهادهم ، ثم أمره بقتل المشركين ، ثم أمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، ثم ما كان أهل العقود عليه من المواريث ، ثم هدر منار الجاهلية لئلا يخالطوا المسلمين في حجّهم " الخ . فائدة هامة : ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة ؟ قال العلامة الزركشي : " وهنا سؤال وهو أن يسأل : ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة ؟ والجواب من وجهين : أحدهما : أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه ، والعمل به ، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى ، فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة . وثانيها : أن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ، ورفع المشقة حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه . الحكم الثالث : هل ينسخ القرآن بالسنّة ؟ اتفق العلماء على أنّ القرآن ينسخ بالقرآن ، وأن السنة تنسخ بالسنة ، والخبر المتواتر ينسخ بمثله ، ولكن اختلفوا : هل ينسخ القرآن بغير القرآن ، والخبر المتواتر بغير المتواتر ؟ فذهب الشافعي : إلى أن الناسخ للقرآن لا بدّ أن يكون قرآناً مثله ، فلا يجوز نسخ القرآن بالسنة عنده . وذهب الجمهور : إلى جواز نسخ القرآن بالقرآن ، وبالسنّة المطهرّة أيضاً ، لأن الكل حكم الله تعالى ومن عنده . دليل الشافعي : استدل الإمام الشافعي على منع نسخ القرآن بالسنة بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ووجه الاستدلال عنده من وجوه : الأول : أنه قال : { نَأْتِ } وأسند الإتيان إلى نفسه ، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآناً . الثاني : أنه قال : { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ولا يكون الناسخ خيراً إلاّ إذا كان قرآناً لأن السنة لا تكون خيراً من القرآن . الثالث : أنه قال في الآية : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؟ فقد دلت على أن الآتي بذلك الخير ، هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات ، وذلك هو الله ربّ العالمين . الرابع : قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] حيث أسند التبديل إلى نفسه ، وجعله في الآيات وهذا أقوى أدلته . أدلة الجمهور : احتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي : أ - نسخ آية الوصية وهي قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [ البقرة : 180 ] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض وهو قوله صلى الله عليه وسلم " ألا لا وصية لوارث " ولا ناسخ إلا السنّة . ب - نسخُ الجلد عن الثيب المحصن في قوله تعالى : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] ولا مسقط لذلك إلا فعلُه صلى الله عليه وسلم حيث أمر بالرجم فقط . جـ - وقالوا إنْ ما ورد في الكتاب أو السنة ، كلّه حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء ، لأن الله تعالى يقول : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 3 - 4 ] . د - وأجابوا عمّا استدل به الشافعي رحمه الله بأنه استدلال غير واضح . لأن الخيريّة إنما تكون بين الأحكام ، فيكون الحكم الناسخ خيراً من الحكم المنسوخ ، بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها ، ولا معنى لأن يكون لفظ الآية خيراً من لفظ آية أخرى ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالمدارُ على أن يكون الحكم الناسخ خيراً من المنسوخ ، أيّاً كان الناسخ قرآناً ، أو سنة ، لأنّ الكل تشريع الحكيم العليم . الترجيح : ومن هنا يترجح رأي الجمهور ، لأن الخيرية والأفضلية إنما هي بحسب اختلاف الأحكام شدة وتيسيراً وتمام الأبحاث مستوفى في علم الأصول . الحكم الرابع : هل يجوز النسخ إلى ما هو أشقّ وأثقل ؟ قال الإمام الفخر : قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقلُ منه ، واحتجوا بأن قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ينافي كونه أثقل ، لأنّ الأثقل لا يكون خيراً منه ، ولا مثله . والجواب : لمَ لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة ؟ . ثم إنَّ الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت ، إلى ( الجلد والرجم ) ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصلاة ركعتين فنسخت بأربع في الحضر . إذا عرفت هذا فنقول : أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الأمثلة المذكورة ، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها ، وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة . الحكم الخامس : هل يقع النسخ في الأخبار ؟ جمهور العلماء على أن النسخ مختصّ بالأوامر والنواهي ، والخبرُ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى . وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل : 67 ] . قال ابن جرير الطبري : " يعني جل ثناؤه بقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدّله ونغيّره ، وذلك أن يُحوّل الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، والمباح محظوراً ، والمحظور مباحاً … ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنهي ، والحضر والإطلاق ، والمنع والإباحة ، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ " . وقال القرطبي : والنسخ كله إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنْسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي ، فتأمل هذا فإنه نفيس . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - نسخ الأحكام جائز بالإجماع كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة . 2 - راعت الشريعة الغرَّاء مصالح العباد ، ولذا وقع النسخ في بعض الأحكام . 3 - النسخ لا يكون في الأخبار والقصص ، إنما يكون في الأحكام التي فيها حلال وحرام . 4 - الأحكام مرجعها إلى الله تعالى ، الذي يشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم . 5 - الله جل جلاله مالك الملك فيجب الاستسلام لحكمه وأمره مع الاطمئنان . 6 - ليس من شأن المسلم أن يسأل نبيّه سؤال تعنت كما فعل اليهود مع أنبيائهم . 7 - الانحراف عن طريق الاستقامة ، وسلوك سبيل الضالين سبب الشقاوة . خاتمة البحث : حكمة التشريع جاءت الشريعة الإسلامية الغراء محققة لمصالح الناس ، متمشية مع تطور الزمن ، صالحة لكل زمان ومكان … وكان من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن سنّ لهم " سنة التدرج " في الأحكام ، لتبقى النفوس على أتم الاستعداد لتقبّل تلك التكاليف الشرعية ، فلا تشعر بملل أو ضجر ، ولا تحسّ بمشقة أو شدة … ولتظلّ الشريعة الغراء - كما أرادها الله - شريعةً سمحة ، سهلة لا عسر فيها ولا تعقيد ، ولا شطط فيها ولا إرهاق . ومن المعلوم : أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس ، وهذه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فإذا شُرع حكمٌ في وقت من الأوقات كانت الحاجة ملحّة إليه ، ثم زالت تلك الحاجة ، فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر ، فيكون هذا التبديل والتغيير أقرب للمصلحة ، وأنفع للعباد . . وما مثل ذلك إلا كمثل الطبيب الذي يغيّر الأغذية والأدوية للمريض ، باختلاف الأمزجة ، والقابلية ، والاستعداد . والأنبياء صلوات الله عليهم هم ( أطباء القلوب ) ومصلحو النفوس ، لذلك جاءت شرائعهم مختلفة ، تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة ، وجاءت بسنة " التدرج " في الأحكام ، لأنها بمثابة الأدوية والعقاقير للأبدان ، فما يكون منها في وقت مصلحة ، قد يكون في وقت آخر مفسدة ، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى ، ذلك حكم العليم الحكيم . جاء في تفسير " محاسن التأويل " ما نصه : " إن الخالق تبارك وتعالى ربّى الأمة العربية ، في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريجية ، لا تتم لغيرها - بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلاّ في قرون عديدة … لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره ، وهذه سنة الخالق في الأفراد ، والأمم ، على حد سواء . فإنك لو نظرتَ : في الكائنات الحية ، لرأيت أن النسخ ناموسٌ طبيعي محسوس ، في الأمور المادية والأدبية معاً ، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافع ، فشاب ، فكهل ، فشيخ ، وما يتبع كل دورٍ من هذه الأدوار يريك بأجلى دليل ، أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق . وإذا كان هذا النسخ : ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يُستنكر نسخُ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرّج من أدنى إلى أرقى ؟ هل يرى إنسان له مُسْكةٌ من عقل ، أنّ من الحكمة تكليف العرب - وهم في مبدأ أمرهم - بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني ، وغاية الكمال البشري ؟ ! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله - وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلّف الأمة وهي في دور ( طفوليتها ) بما لا تتحمله إلا في دور ( شبوبيتها ) وكهولتها … ؟ وأيّ الأمرين أفضل : أشرعُنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه ، وأتمّه بحيث لا يستطيع الإنسُ والجن أن يُنقصوا حرفاً منه ، لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لآية حالةٍ من حالات الإنسان ؟ أم شرائع دينية أخرى ، حرّفها كهّانها ، ونسخ الوجود أحكامها - بحيث يستحيل العمل بها - لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه … ؟ ! "