Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 142-145)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 3 ] التوجه إلى الكعبة في الصلاة التحليل اللفظي { ٱلسُّفَهَآءُ } : أصل السفه في كلام العرب : الخفة والرقة ، يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه ، أو كان بالياً رقيقاً ، وسفّهته الرياح أي أمالته قال ذو الرمّة : @ مشيْنَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهتْ أعاليَها مرّ الرياح النّواسِمِ @@ والسّفه : ضد الحلم وهو خفة وسخافة يقتضيها نقصان العقل ، ولهذا سمّى الله الصبيان سفهاء { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً } [ النساء : 5 ] . { وَلَّٰهُمْ } : يعني صرفهم ، يقال : ولىّ عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف ، وهو استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب . { قِبْلَتِهِمُ } : القبلة من المقابلة وهي المواجهة ، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل ، ثم خصّت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة . { وَسَطاً } : أي عدولاً خياراً ، ومنه قوله تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [ القلم : 28 ] أي خيرهم أو عدلهم ، قال الشاعر : @ هم وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمِهم إذا نزلت إحدى الليالي بمُعْظَم @@ وأصل هذا أنّ خير الأشياء أوساطها ، وأن الغلوّ والتقصير مذمومان . قال الجوهري في " الصحاح " : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي عدلاً ، وكذلك روي عن الأخفش ، والخليل . وقال الزمخشري : وقيل للخيار وسطٌ ؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأوساط محميةٌ محوّطة ومنه قول أبي تمام : @ كانتْ هي الوسطَ المحميّ فاكتنفت بها الحوادثُ حتّى أصبحتْ طرفاً @@ { عَقِبَيْهِ } : العقبان : تثنية عقب ، وهو مؤخر القدم ، والانقلابُ عليهما بمعنى الانصراف والرجوع ، يُقال : انقلب على عقبيه إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء . والمعنى : لنعلم من يثبت على الإيمان ، ممّن يرتد عن دين الإسلام ، ويرجع إلى ما كان عليه من ضلال ، والكلام فيه استعارة كما سيأتي . { لَكَبِيرَةً } : أي شاقة ثقيلة تقول : كبر عليه الأمر أي اشتد وثقل . { لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } : الرأفة هي الرحمة ، إلاّ أن الرأفة في دفع المكروه ، والرحمة أعم تشمل المكروه والمحبوب . { تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } : تقلّبُ الوجه في السماء : ترّدده المرة بعد المرة فيها ، والسماءُ مصدر الوحي ، وقبلة الدعاء . قال الزجاج : المراد تقلب عينيك في النظر إلى السماء . وقال قطرب : تحول وجهك إلى السماء وهما متقاربان . ومعنى الآية : كثيراً ما نرى تردّد وجهك ، وتصرّف نظرك في جهة السماء متشوقاً لنزول الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة . { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } : أي لنمكننّك من استقبالها ، من قولك : وليّتُه كذا إذا جعلته والياً له ، فيكون من الولاية ، أو من التولي ، والمعنى : فلنجعلنّك متولياً جهتها ، وهذه بشارة من الله تعالى لرسوله الكريم بتوجيهه إلى القبلة التي يحب . { شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ } : والشطرُ في اللغة يكون بمعنى الجهة والناحية كما في هذه الآية ومنه قول الشاعر : @ أقول لأمّ زِنبْاعٍ أقيمي صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم @@ ويكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " والشاطر : الشاب البعيد عن أهله ومنزله ، وهو من أعيا أهله خُبْثاً ، وسئل بعضهم عن الشاطر فقال : هو من أخذ في البعد عمّا نهى الله عنه . ومعنى الآية : فولّ وجهك جهة المسجد الحرام أي جهة الكعبة . { أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } : المراد بهم أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ، والكتابُ : التوراةُ والإنجيل . وجه المناسبة بين الآيات كان صلوات الله عليه وهو بمكة يستقبل بيت المقدس في الصلاة ، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون ، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وقد جاء بإحياء ملته ، وتجديد دعوته ، ولأنها أقدم القبلتين ، وقد كان اليهود يقولون : يخالفنا محمد في ديننا ، ويتّبع قبلتنا ، ولولا ديننا لم يدر أين يتوجه في صلاته ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم البقاء على قبلتهم ، حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة . وقد أخبر الله جل ثناؤه رسوله الكريم بما سيقوله السفهاء الجهال ، من اليهود المنافقين ، قبل تحويل القبلة ، ولقنّه الحجة البالغة ليردّ عليهم ، ويوطّن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه ، ويعدّ الجواب القاطع لحجة الخصم ، وقد قيل في الأمثال " مثل الرمي يراشُ السهم " وليكون الوقوع بعد الإخبار معجزة له عليه السلام . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه : سيقول السفهاء من الناس - وهم أهل الضلال من اليهود والمشركين والمنافقين - ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يتوجهون إليها جهة بيت المقدس وهي قبلة النبيّين والمرسلين من قبلهم ؟ قل لهم يا محمد : لله المشرق والمغرب ، الجهات كلّها لله ، وهو سبحانه يتصرف في ملكه كيف شاء على ما تقتضيه حكمته البالغة ، يهدي من شاء من عباده ، إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين . وكما هديناكم - أيها المؤمنون - فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته ، كذلك فضّلناكم على من سواكم من أهل الملل ، فجعلناكم أمة عدولاً خياراً ، لتشهدوا للأنبياء يوم القيامة على أممهم أنّهم قد بلّغوهم رسالة الله ، ويشهد لكم الرسول بالإيمان والاتباع لما جاء به من الدين الحنيف ، وما أمرناك بالتحول عن القبلة التي كنت عليها إلى الكعبة ، إلا ليتبيّن للناس الثابت على إيمانه من المتشكك في دينه ، الذي هو عرضة لرياح الشبهات التي يثيرها أعداء الدين ، فينافق أو يكفر ، ويرتد عن دينه لأبسط الشبهات ، وما كان الله ليضيع صلاتكم ، إن الله رحيم بعباده ، لا يبتليهم ليضيع عليهم أعمالهم ، ولكنْ ليجزيهم أحسن الجزاء . كثيراً ما رأينا تردّد بصرك - يا محمد - جهة السماء ، تطلعاً للوحي وتشوقاً لتحويل القبلة ، فلنوجهنّك إلى قبلة تحبها ، فتوجه في صلاتك نحو المسجد الحرام ، وأنتم - أيها المؤمنون - استقبلوا بصلاتكم جهته أيضاً ، فهي قبلتكم وقبلة أبيكم إبراهيم ، وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام ، هو الحق المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ولكنّهم يفتنون ضعاف المؤمنين ، ليشككوهم في دينهم ، بإلقاء الشبهات والأباطيل في نفوسهم ، وما الله بغافل عما يعملون فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن ، المحاسب على ما في السرائر . سبب النزول أ - أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ( صلاة العصر ) وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } . ب - وعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ } فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } . وجوه القراءات أولاً : قرأ الجمهور { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } بالمد في { رؤوف } مع الهمز على وزن فعول ، وقرأ الكسائي وحمزة { لَرَءُوفٌ } على وزن رَعُف ، ويقال : هو الغالب على أهل الحجاز ، قال جرير : @ ترى للمسلمين عليكَ حقاً كفعل الوالد الرّؤفِ الرحيم @@ ثانياً : قرأ الجمهور { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بالياء في { يَعْمَلُونَ } فيكون وعيداً لأهل الكتاب ، وقرأ حمزة والكسائي { عما تعملون } بالتاء فيكون وعيداًَ للفريقين : المؤمنين والكافرين . وجوه الإعراب أولاً : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } الكاف للتشبيه وهي في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : كما هديناكم جعلناكم أمة وسطاً ، أي مثل هدايتنا لكم كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، و ( أمة ) مفعول ثانٍ لجعلنا ، و ( وسطاً ) صفة لها . ثانياً : قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } ( إنْ ) مخففة من ( إنّ ) الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، واللام في قوله ( لكبيرة ) للفرق بين المخففة والنافية ، كما في قوله تعالى : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] وزعم الكوفيون أنها نافية ، واللام بمعنى إلاّ ، أي ما كانت إلا كبيرة ، قال العكبري : وهو ضعيف جداً من جهة أن وقوع اللام بمعنى إلا لا يشهد له سماع ولا قياس . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : أخبر المولى جلّ وعلا عمّا سيقوله السفهاء من اليهود قبل تحويل القبلة ، والإخبار فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على صدق ما جاء به ، لأنه إخبار عن أمر مغيّب ، كما فيه الجواب القاطع لحجة الخصم العنيد . قال الزمخشري في " الكشاف " : " فإن قلت : أيّ فائدةٍ في الإخبار بقولهم قبل وقوعه ؟ قلت : فائدته أن مفاجأة المكروه أشد ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع ، لما يتقدمه من توطين النفس ، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم ، وأردّ لشَغَبه ، وقبل الرمي يُراش السهم " . اللطيفة الثانية : ردّ القرآن بالحجة الدامغة على السفهاء ( اليهود ، والمشركين ، والمنافقين ) في قوله جل وعلا : { قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وتقريره أن الجهات كلها لله تعالى ، لا فضل لجهةٍ منها بذاته على جهة ، ولا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى خصّها بذلك ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة ، وأن العبرة بالتوجه إليه سبحانه بالقلوب ، واتباع أمره في توجه الوجوه . فكيف يعترضون عليك يا محمد ؟ لا شك أنهم أغبياء الأفهام ، سفهاء الأحلام . اللطيفة الثالثة : التعبير بقوله تعالى : { أُمَّةً وَسَطاً } فيه لطيفة ، وهي أن خير الأمور أوساطها ، فالزيادة على المطلوب في الأمر إفراط ، والنقصُ عنه تفريط وتقصير ، وكلٌ من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادة القويمة ، فهو شر ومذموم ، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر ، أي التوسط بينهما . وذكر ابن جرير الطبري : " أنه من التوسط في الدين ، فإن المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود ، الذين قتلوا الأنبياء ، وبدّلوا كتاب الله ، ولم يضلوا كالنصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله ، وغلوا في الترهب غلواً كبيراً ، ولكنّهم أهل توسط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها " . اللطيفة الرابعة : في شهادة هذه الأمة على الأمم يوم القيامة أكبر دليل على فضل هذه الأمة المحمدية ، وقد روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلّغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون ، فتقول الأمم : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا ؟ فيقولون : نشهد بإخبار الله عز وجل الناطق ، على لسان نبيه الصادق بأنه قد بلغكم ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيزكيهم ويشهد بعدالتهم . أخرج البخاري في " صحيحه " : عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلغت فيقول : نعم ، فيقال لأمته : هل بلّغكم ؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير ، فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فيشهدون أنه قد بلّغ " ، فذلك قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } . اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ } أوّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى ( لنعلم ) لنرى . والعرب تضع العلم ماكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] بمعنى : ألم تعلم . قال الطبري : " الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وقوعها ، وإنما تأويل الآية { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } أي ليعلم رسولي وأوليائي ، إذا كان من شأن العرب إضافة أتباع الرئيس إلى الرئيس ، نحو فتح عمر سواد العراق ، وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه " . وقال ابن عباس : المعنى : لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة ، ففسّر العلم بـ ( التمييز ) لأن بالعلم يقع التمييز . وقال الزمخشري في " الكشاف " : المراد بالعلم ( علم المعاينة ) الذي يتعلق به الثواب والجزاء كقوله تعالى : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] . اللطيفة السادسة : في قوله تعالى : { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } استعارة تمثيلية حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه ، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلمّا تركوا الإيمان والدلائل ، صاروا بمنزلة المدبر عمّا بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ } [ المدثر : 23 ] . اللطيفة السابعة : سمّى الله تعالى الصلاة ( إيماناً ) في قوله : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي صلاتكم لأن الإيمان لا يتم إلاّ بها ، ولأنها تشتمل على نيّة ، وقول ، وعمل . قال القرطبي : اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس ، لما روي عن ابن عباس أنه قال : لمّا وُجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، قالوا يا رسول الله : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } . ثمّ قال : فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل . قال مالك : وفيه رد على من قال : إن الصلاة ليست من الإيمان . اللطيفة الثامنة : قال الزمخشري : إنّ ( قد ) هنا بمعنى ( ربما ) وهي للتكثير ، ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر : @ قد أتركُ القِرْنَ مصفَرّاً أناملُه كأنّ أثوابَه مُجّتْ بفرصاد @@ قال أبو حيان : التكثير مستفاد من لفظ التقلب لأنه مطاوع التقليب ، ومن نظر مرة أو ردّد بصره مرتين أو ثلاثاً لا يقال : إنه قلّب ، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير . والتعبير بقوله تعالى : { قَدْ نَرَىٰ } بمعنى قد رأينا ، لأن { قَدْ } تقلب المضارع ماضياً كما يقول النحاة ومنه قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ } [ الأحزاب : 18 ] وقوله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ } [ الحجر : 97 ] أي قد علمنا . اللطيفة التاسعة : قال المحققون من أهل التفسير : في قوله تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } في هذه الآية تنبيه لطيف على حسن أدبه عليه السلام حيث انتظر الوحي ولم يسأل ربه ، وقد أكرمه الله تعالى على هذا الأدب بقبلة يحبها ويهواها فقال تعالى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } وفي سبب محبته عليه الصلاة والسلام التوجه إلى المسجد الحرام وترك التوجه إلى بيت المقدس وجوه : الأول : مخالفةً لليهود حيث كانوا يقولون : يخالفنا محمد ثم يتّبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل . الثاني : أن الكعبة المشرّفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرحمٰن . الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في تحويل القبلة استمالة للعرب لدخولهم في الإسلام . الرابع : منشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في البلد الأمين وفيه المسجد الحرام الذي هو قبلة المساجد فأحب أن يكون هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه . اللطيفة العاشرة : في التعبير عن ( الكعبة ) بالمسجد الحرام إشارة لطيفة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، والسرّ في الأمر بالتولية خاصاً وعاماً { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } ثم قال : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } مع أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته هو الاهتمام لشأن القبلة ، ودفع توهم أن الكعبة قبلة أهل المدينة وحدهم ، لأن الأمر بالصرف كان فيها ، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية . قال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفاً له وإيجاباً لرغبته عليه الصلاة والسلام ، وأما خطابه العام بعده فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا قد خُصّ عليه الصلاة والسلام به ، كما خُصّ في قوله { قُمِ ٱلَّيلَ } [ المزمل : 2 ] ، ولما كان تحويل القبلة له خطر خصّهم بخطاب مفرد . الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما المراد بالمسجد الحرام في القرآن الكريم ؟ ورد ذكر { ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } في آيات متفرقة من القرآن الكريم ، وفي السنة المطهرة أيضاً ، وقصد به عدة معان : الأول : الكعبة ، ومنه قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي جهة الكعبة . الثاني : المسجد كلّه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " صلاةٌ في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا تُشدّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " . الثالث : مكة المكرمة كما في قوله تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من مكة المكرمة ، وقوله تعالى : { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ الفتح : 25 ] وقد صدوهم عن دخول مكة . الرابع : الحرم كله ( مكة وما حولها من الحرم ) كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] والمراد منعهم من دخول الحرم . والمراد بالمسجد الحرام هنا هو المعنى الأول ( الكعبة ) والمعنى : فولّ وجهك شطر الكعبة . الحكم الثاني : هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها ؟ استقبال القبلة فرض من فروض الصلاة ، لا تصح الصلاة بدونه ، إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع ، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة ، فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته ، لما رواه أحمد ومسلم والترمذي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به ، وفيه نزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 115 ] . وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، إنما الخلاف هل الواجب استقبال عين الكعبة أم استقبال الجهة ؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب استقبال عين الكعبة . وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّ الواجب استقبال جهة الكعبة ، هذا إذا لم يكن المصلي مشاهداً لها ، أمّا إذا كان مشاهداً لها فقد أجمعوا أنه لا يجزيه إلا إصابة عين الكعبة ، والفريق الأول يقولون : لا بدّ للمشاهد من إصابة العين ، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة ، والفريق الثاني يقولون : يكفي للغائب التوجه إلى جهة الكعبة . أدلة الشافعية والحنابلة : استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم بالكتاب ، والسنة ، والقياس . أ - أما الكتاب : فهو ظاهر هذه الآية { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } ووجه الاستدلال : أن المراد من الشطر الجهة المحاذية للمصلي والواقعة في سمته ، فثبت أن استقبال عين الكعبة واجب . وأما السنة : فما روي في " الصحيحين " عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال : " لمّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلّها ، ولم يصلّ حتى خرج منه ، فلمّا خرج صلى ركعتين من قِبَل الكعبة ، وقال : هذه القبلة " . قالوا : فهذه الكلمة تفيد الحصر ، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة . جـ - وأما القياس : فهو أنّ مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم الكعبة ، أمر بلغ مبلغ التواتر ، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيفُ صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف ، فوجب أن يكون مشروعاً . وقالوا أيضاً : كونُ الكعبة قبلة أمر مقطوع به ، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك فيه ، ورعايةُ الاحتياط في الصلاة أمر واجب ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال عين الكعبة . أدلة المالكية والحنفية : واستدل المالكية والحنفية على مذهبهم بالكتاب ، والسنة وعمل الصحابة ، والمعقول . أ - أما الكتاب : فظاهر قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } ولم يقل : شطر الكعبة ، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام ، فقد أتى بما أمر به ، سواء أصابَ عين الكعبة أم لا . ب - وأما السنة : فقوله عليه الصلاة والسلام : " ما بين المشرق والمغرب قِبْلةٌ " . وحديث : " البيتُ قبلةٌ لأهل المسجد والمسجدُ قبلةٌ لأهل الحرم ، والحرامُ قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " . جـ - وأما عمل الصحابة : فهو أنّ أهل ( مسجد قباء ) كانوا في صلاة الصبح بالمدينة ، مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين الكعبة ، فقيل لهم : إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، وسُمّي مسجدهم ( بذي القبلتين ) . ومعرفةُ عين الكعبة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة ، وفي ظلمة الليل ؟ د - وأما المعقول : فإنه يتعذر ضبط ( عين الكعبة ) على القريب من مكة ، فكيف بالذي هو في أقاصي الدنيا من مشارق الأرض ومغاربها ؟ ولو كان استقبال عين الكعبة واجباً ، لوجب ألا تصحّ صلاة أحدٍ قط ، لأن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة نيّف وعشرين ذراعاً من الكعبة ، ولا بدّ أن يكون بعضهم قد توجّه إلى جهة الكعبة ولم يصب عينها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أنّ إصابة عينها على البعيد غير واجبة { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . ومن جهة أخرى : فإن الناس من عهد النبي عليه الصلاة والسلام بنوا المساجد ، ولم يحضروا مهندساً عند تسوية المحراب ، ومقابلةُ العين لا تُدرك إلا بدقيق نظر الهندسة ، ولم يقل أحد من العلماء إنّ تعلم الدلائل الهندسية واجب ، فعلمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب . الترجيح : هذه خلاصة أدلة الفريقين سقناها لك ، وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أن أدلة الفريق الثاني ( المالكية والأحناف ) أقوى برهاناً ، وأنصع بياناً ، لا سيما للبعيد الذي في أقاصي الدنيا ، وأصول الشريعة السمحة تأبى التكليف بما لا يطاق ، وكأنّ الفريق الأول حين أحسوا صعوبة مذهبهم ، خصوصاً من غير المشاهد لها قالوا : " إن فرض المشاهد للكعبة إصابةُ عينها حسّاً ، وفرض الغائب عنها إصابة عينها قصداً " وبعد هذا يكاد يكون الخلاف بين الفريقين شكلياً ، لأنهم صرحوا بأنّ غير المشاهد لها يكفي أن يعتقد أنه متوجه إلى عين الكعبة ، بحيث لو أزيلت الحواجز يرى أنه متوجه في صلاته إلى عينها ، وفي هذا الرأي جنوح إلى الاعتدال ، والله الهادي إلى سواء السبيل . قال العلامة القرطبي : في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " ما نصّه : " واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين ، أو الجهة ، فمنهم من قال بالأول ، قال ابن العربي : وهو ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه ، ومنهم من قال بالجهة وهو الصحيح لثلاثة أوجه : الأول : أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف . الثاني : أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . الثالث : " أنّ العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يُعلم قطعاً أنه أضعاف عرض البيت " . الحكم الثالث : هل تصح الصلاة فوق ظهر الكعبة ؟ وبناءً على الخلاف السابق : هل القبلة عين الكعبة أم جهتها ؟ انبنى خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة ، هل تصح أم لا ؟ فذهب الشافعية والحنابلة : إلى عدم صحة الصلاة فوقها ، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها إنما يستقبل شيئاً آخر . وأجاز الحنفية : الصلاة فوقها مع الكراهية ، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب ، إلا أنّ الصلاة تصحّ بناء على مذهبهم من أن القبلة هي الجهة : من قرار الأرض إلى عنان السماء ، والله تعالى أعلم . الحكم الرابع : أين ينظر المصلي وقت الصلاة ؟ ذهب المالكية : إلى أن المصلي ينظر في الصلاة أمامه . وقال الجمهور : يستحبُ أن يكون نظره إلى موضع سجوده ، وقال شريك القاضي : ينظر في القيام إلى موضع السجود ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى حجْره . قال القرطبي : في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه ، في أنّ المصلي حكمُه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . قال ابن العربي : " إنما ينظر أمامه ، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلّف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، وما جعل علينا في الدين من حرج " . الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، فإن المصلي إذا نظر إلى مكان السجود لا يخرج عن كونه متوجهاً إلى الكعبة ، وإنما استحبوا ذلك حتى لا يتشاغل في الصلاة بغيرها وليكون أخشع لقلبه والله أعلم . وهناك أحكام أخرى جزئية تطلب من كتب الفروع . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً : إعتراض اليهود على تحويل القبلة سفه وجهالة لأنه لا يعتمد على منطق سليم . ثانياً : الجهات كلّها لله تعالى خَلْقاً وملكاً فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى . ثالثاً : الأمة المحمدية أفضل الأمم لذلك اختارها الله للشهادة على الخلائق يوم القيامة . رابعاً : تحويل القبلة امتحانٌ لإيمان الناس ليتميّز المؤمن الصادق عن الفاجر المنافق . خامساً : أدب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنعه من سؤال تحويل القبلة ولذلك أكرمه الله بما يرضى . سادساً : الكعبة المشرفة قبلة أبي الأنبياء وقد جمع الله بها قلوب العباد . سابعاً : أهل الكتاب يعلمون أن تحويل القبلة حق ولكنهم أرادوا فتنة المؤمنين . خاتمة البحث : حكمة التشريع هذا البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، هو قبلة أهل الأرض ، كما أنّ البيت المعمور قبلة أهل السماء يطوفون حوله يسبّحون بحمد الله . وقد اقتضت حكمة الله أن يجمع ( أمة التوحيد ) على قبلةٍ واحدة ، فأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني هذا البيت العتيق ، ليكون مثابة للناس وأمناً ، ومصدراً للإشعاع والنور الرباني ، ومكاناً لحج بيته المعظم ، يأتيه الناس من كل فج عميق { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] . وقد أمر الله رسوله الكريم بالتوجه إليه في الصلاة ، بعد أن توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وذلك لحكمة جليلة هي امتحان إيمان الناس ، واختبار صدق يقينهم ، ليظهر المؤمن الصادق ، من الكاذب المنافق ، وليعيد لهذه الأمة التي اختارها الله ، قيادة ركب الإنسانية ، بعد أن تخلت عنها ردحاً من الزمان كما قال تعالى : { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ … } [ الحج : 78 ] . فالكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً - هي رمز التوحيد ؛ ومظهر الإيمان ، وقبلة أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمٰن وحولها تلتقي أفئدة الملايين من المؤمنين لأنها مظهر وحدتهم ، وسرّ اجتماع كلمتهم ، فلا عجب أن يأمرهم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتهم ، أينما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ … } . قال الإمام الفخر : ( وقد ذكروا في تعيين القبلة في الصلاة حِكماً : أحدها : أن العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم ، فإنه لا بدّ أن يستقبله بوجهه ، وألا يكون معرضاً عنه ، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه ، ويبالغ في الخدمة والتضرع له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً عنه ، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة . وثانيها : أن المقصود من الصلاة حضور القلب ، وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الإلتفات والحركة ، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين ، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف كان استقبال تلك الجهة أولى . وثالثها : أن الله تعالى يحب الألفة بين المؤمنين ، وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً … } [ آل عمران : 103 ] ولو توجّه كل واحد في صلاته إلى ناحية ، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً ، فعيّن الله تعالى لهم جهة معلومة ، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها ، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك . ورابعها : أن الله تعالى خصْ الكعبة بإضافتها إليه في قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } [ الحج : 26 ] وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه { يٰعِبَادِيَ } [ العنكبوت : 56 ] ، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم ، فكأنه تعالى قال : يا مؤمن أنتَ عبدي ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، فأقبلْ بوجهك في خدمتي إلى بيتي ، وبقلبك إليّ … ) .