Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 159-160)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 5 ] كتمان العلم الشرعي التحليل اللفظي { يَكْتُمُونَ } : الكتمان : الإخفاء والستر ، قال الراغب : الكتمان ستر الحديث يقال كتمته كتماً وكتماناً . قال الألوسي : " الكتم ترك إظهار الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه ، وتحقيق الداعي إلى إظهاره ، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه ، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه ، واليهود - قاتلهم الله - ارتكبوا كلا الأمرين " . { ٱلْبَيِّنَاتِ } : الآيات الواضحات الدالة على الحق ، جمع بينة وهي في اللغة الدلالة الواضحة ، عقلية كانت أو حسيّة ، وسمي البيان بياناً لكشفه عن المعنى المقصود . والمراد بالبينات في الآية : ما أنزله الله في التوراة والإنجيل من أمر محمد عليه الصلاة والسلام . { وَٱلْهُدَىٰ } : الهدى كلّ ما يدل على الخير ، ويهدي إلى الرشد ، من الهداية وهي الدلالة على الشيء . قال أبو السعود : المراد بالهدى الآيات الهادية إلى وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه ، عبّر عنها بالمصدر مبالغة . { يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ } : أي يطردهم ويبعدهم من رحمته ، وأصل اللعن : الإبعاد والطرد قال الشماخ : @ مقام الذئب كالرجل اللعين @@ أي الطريد . { ٱللاَّعِنُونَ } : قال ابن عباس : اللاعنون كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين . وقال مجاهد : هم دواب الأرض وهوامّها ، تقول : مُنِعنا القطر بمعاصي بني آدم . والصحيح أنهم : ( الملائكة ، والأنبياء ، وجميع الناس ) لقوله تعالى : بعد هذه الآية : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] والقرآن يفسّر بعضه بعضاً . { تَابُواْ } : أي رجعوا عن الكتمان . وأصل التوبة الرجوعُ والندم على ما صدر من الإنسان . { وَأَصْلَحُواْ } : أي أصلحوا ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرّف ، أو أصلحوا سيرتهم وأعمالهم . { وَبَيَّنُواْ } : أي أظهروا للناس ما كانوا كتموه من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم أو ما كتموه من دين الله . { التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } : أي المبالغ في قبول التوبة ، الرحيم بالعباد ، وهما من صيغ المبالغة . وجه المناسبة كان أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه ، أو السؤال عنه ، ويتعمدون إخفاء ما ورد من البشارات ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يؤمن به الناس ، كما يخفون بعض الأحكام الشرعية كحكم رجم الزاني ، ويكتمون بعضها بتحريف الكلم عن مواضعه ، والتأويل للآيات على غير معانيها إتباعاً للأهواء ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات ، التي سجّلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة . المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه : إن الذين يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات ، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه رسول الله ، ويتعمدون أن يكتموا أمر البشارة به عليه السلام مع أنهم يعلمون حق العلم أوصافه . لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] هؤلاء الكاتمون لأوصاف الرسول ، المتلاعبون بأحكام الدين ، المحرفون للتوراة والإنجيل ، يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله ، ويستوجبون اللعنة من الملائكة والناس أجمعين ، إلاّ من تاب عن كتمانه ، وأصلح أمره بالإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيّن ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ، فلم يكتمه ولم يُخفه ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته ، وهو جل ثناؤه كثير التوبة على العباد ، يتغمدهم برحمته ، ويشملهم بعفوه ، ويصفح عمّا فرط منهم من السيئات . سبب النزول 1 - نزلت هذه الآية الكريمة من أهل الكتاب حين سئلوا عمّا جاء في كتبهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه ، ولم يخبروا عنه حسداً وبغضاً … روى السيوطي في " الدر المنثور " عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ ( معاذ بن جبل ) وبعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبرونهم ، فأنزل الله فيهم { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : قوله تعالى { فِي ٱلْكِتَابِ } المراد بالكتاب الكتب التي أنزلها الله لهداية البشرية ، فـ ( أل ) تكون ( للجنس ) مثلها في قوله تعالى : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْر } [ العصر : 1 - 2 ] وقيل : المراد بالكتاب التوراةُ والإنجيل ، فتكون ( أل ) للعهد الذهني . اللطيفة الثانية : عبّر باسم الإشارة البعيد { أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ } تنبيهاً على قبح عملهم وغاية بعده في الإجرام ، والإفساد ، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً لخطورته ، وأتى بالفعل المضارع المفيد للتجدد لتجدد مقتضيه ، وأبرز اسم الجلالة { يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ } على سبيل الإلتفات لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، إذ لو جرى على نسق الكلام المتقدم لقال ( أولئك نلعنهم ) . اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } ضربٌ من البديع يسمى ( الجناس المغاير ) وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً ، والأخرى فعلاً كما في هذه الآية . اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } جاء اللفظان بصيغة المبالغة ، لأن ( فعّال ) و ( فعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك : @ فعّال أو مفعال أو فعول في كثرةٍ عن فاعل بديل @@ والمعنى : كثير التوبة ، واسع المغفرة والرحمة . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل هذه الآية خاصة بأحبار اليهود والنصارى ؟ الآية الكريمة نزلت في أهل الكتاب من أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ، الذين كتموا صفات النبي عليه الصلاة والسلام كما دلّ على ذلك سبب النزول ، ولكنها تشمل كل كاتم لآيات الله ، مخفٍ لأحكام الشريعة ، لأن العبرة - كما يقول علماء الأصول - بعموم اللفظ لا ( بخصوص السبب ) ، والآيات وردت عامة بصيغة اسم الموصول { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ } لذلك تعم . قال أبو حيان : " والأظهر عموم الآية في الكاتمين ، وفي الناس ، وفي الكتاب ، وإن نزلت على سبب خاص ، فهي تتناول كلّ من كتم علماً من دين الله ، يُحتاج إلى بثه ونشره . وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : " من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار " وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم ، وهم العرب الفُصح ، المرجوع إليهم في فهم القرآن ، كما روي عن أبي هريرة : " لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث ثم تلا قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } " الآية . الحكم الثاني : هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين ؟ استدل العلماء من قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ … } الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن ، أو تعليم العلوم الدينية ، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه ، ولا يستحق الإنسان أجراً على عملٍ يلزمه أداؤه ، كما لا يستحق الأجر على الصلاة ، لأنها قربة وعبادة ، لذلك يحرم أخذ الأجرة على تعليمها . غير أن المتأخرين من العلماء لمّا رأوا تهاون الناس ، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني ، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا ، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم كتاب الله ، وسائر العلوم الدينية ، فينعدم حفظة القرآن ، وتضيع العلوم ، لذلك أباحوا أخذ الأجور ، بل زعم بعضهم أنه واجب للحفاظ على علوم الدين ، وما هذه الأوقاف والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لغرض صيانة القرآن وعلوم الشريعة ، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] غير أننا نجد المتقدمين من الفقهاء متفقين على حرمة أخذ الأجرة على علوم الدين . لأن العلم عبادة وأخذ الأجرة على العبادة غير جائز . قال أبو بكر الجصاص : " وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم ، وترك كتمانه ، فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه ، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ، ألا ترى أنه لا يجوز استحقاق الأجر على الإسلام ؟ ! ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً ، لأن قوله تعالى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه ، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل ، قال عمر بن أبي ربيعة : @ إن كنت حاولت دنيا أو أصبت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن @@ فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن ، وسائر علوم الدين " . وقال الفخر الرازي : " احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم ، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم ، كان أخذ الأجرة أخذاً على أداء الواجب ، وأنه غير جائز ، وقوله تعالى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] مانعٌ أخذ البدل عليه من جميع الوجوه " . أقول : هذه النظرة الفقهية الدقيقة تسمو بالعلم إلى درجة العبادة ، وهي نظرة جديرة بالتقدير ، ولكنّ علوم الشريعة تكاد تضيع مع الأخذ بفتوى المتأخرين ، من إباحة أخذ الأجرة على التعليم ، فكيف لو أخذنا بفتوى المتقدمين ومنعنا أخذ الرواتب والأجور ؟ إذن لم يبق من يعلّم أو يتعلم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - اليهود والنصارى كتموا صفات النبي لصدّ الناس عن الإيمان به . 2 - كتم العلم خيانة للأمانة التي جعلها الله في أعناق العلماء . 3 - يجب نشر العلم وتبليغه إلى الناس لتعمّ الهداية جميع البشر . 4 - من كتم شيئاً من أحكام الشرع الحنيف استحق اللعنة المؤبدة . 5 - لا تكفي التوبة وحدها بل لا بدّ من إصلاح السيرة ، وإخلاص العمل . خاتمة البحث : حكمة التشريع جاءت الشرائع السماوية ، لهداية البشرية ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد أمرنا الإسلام بتعليم الجاهل ، وهداية الضال ، ودعوة الناس إلى الله ، حتى تقوم الحجة على الناس ، ولا يبقى لأحدٍ عذر عند الله يوم القيامة . ولمّا كان ما أنزله الله من البينات والهدى ، لم ينزل إلاّ لخير الناس ، وهداية البشرية إلى الطريق المستقيم ، وكان كتم العلم وعدم تبليغه إلى الناس فيه تعطيل لوظيفة الرسالة ، التي بعث الله بها رسله وأنبياءه ، وفيه خيانة للأمانة التي ائتمن الله عليها العلماء { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ … } [ آل عمران : 187 ] لذلك فقد شدّد الله النكير على من كتم شيئاً ممّا يحتاج الناس إليه ، وخاصة من أمور الدين ، وأوعد بالعذاب الأليم لكل من كتم آيات الله ، أو أخفى أحكام الشريعة ، لأن الكتمان جرم عظيم ، يستحق مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة الله عز وجل . وفي هذا دلالة واضحة ، على عناية الإسلام العظيمة ، بنشر العلم والثقافة ، لتبليغ دعوة الله إلى الناس وانتشال الأمة من براثن الجهل والضلالة ، فنشر العلم عبادة ، وكتمه جناية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " بلّغوا عين ولو آية " وقال صلوات الله وسلامه عليه : " من سُئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " .