Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 172-173)

Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ 6 ] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث التحليل اللفظي { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ } : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم ويكون على وجهين : أحدهما : الاعتراف بالنعمة وذلك بالثناء على المنعم { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] . والثاني : صرف النعمة فيما يرضي الله وذلك باستعمال السمع والبصر وسائر الحواس فيما خلقت له . { أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } : الإهلال رفع الصوت ، يقال : أهلّ بكذا أي رفع صوته ، ومنه إهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة ، وأهلّ الحاج رفع صوته بالتلبية قال الشاعر : @ يُهلّ بالفرقد ركبانُها كما يُهلْ الراكبُ المعتمرُ @@ وأصل الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل في رفع الصوت مطلقاً ، وكان المشركون إذا ذبحوا ذكروا اسم اللات والعزّى ورفعوا بذلك أصواتهم . والمعنى : حرّم عليكم ما ذبح للأصنام والطواغيت ، وذكر عليه اسم غير الله . قال الزمخشري : وذلك قول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزّى . { ٱضْطُرَّ } : أي حلّت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرّم الله . قال القرطبي : فيه اضمار أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها فهو ( افتعل ) من الضرورة وأصله ( اضطرر ) . { بَاغٍ } : الباغي في اللغة : الطالب لخير أو لشر ومنه حديث " يا باغي الخير أقبل " وخُصّ هنا بطالب الشر . قال الزجاج : البغي قصدُ الفساد ، يقال : بغى الجرح إذا ترامى للفساد . وبغت المرأة إذا فجرت . { عَادٍ } : اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد . والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته ، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد غيرها . قال الطبري : " وأولى هذه الأقوال قول من قال : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ } بأكله ما حرم عليه من أكله { وَلاَ عَادٍ } في أكله وله في غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى " . المعنى الإجمالي يأمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن يتمتعوا في هذه الحياة بما أحله لهم من الكسب الحلال ، والرزق الطيب ، والمتاع النافع ، وأن يأكلوا من لذائذ المآكل التي أباحها لهم ، ورزقهم إيّاها بشرط أن تكون من الحلال الطيب ، وأن يشكروا الله على نعمه التي أسبغها عليهم ، إن كانوا حقاً صادقين في دعوى الإيمان ، عابدين الله منقادين لحكمه ، مطيعين لأمره ، لا يعبدون الأهواء والشهوات . ثمّ بيّن تعالى ما حرّمه عليهم من الخبائث المستكرهة ، التي تنفر منها الطباع السليمة ، أو ممّا فيه ضرر واضح للبدن ، فذكر تعالى أنه إنما حرّم عليهم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وسائر الخبائث ، كما حرّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة ، وكلّ ما ذُكر عليه اسم غير الله ، لكنّ إذا اضطر الإنسان ، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، غير باغٍ بأكله ما حرم الله عليه ، فليس عليه ذنب أو مخالفة ولا متجاوز قدر الضرورة ، لأن الله غفور رحيم ، يغفر للمضطر ما صدر منه عن غير إرادة ، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج . وجه الارتباط بالآيات السابقة بيّن تعالى في الآيات السابقة حال الذين يتخذون الأنداد من دون الله يحبونهم كمحبة الله ، وأشار إلى أن سبب ذلك هو حب حطام الدنيا ، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه ، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض ، إذْ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها ، بشرط أن تكون حلالاً طيباً ، { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } [ البقرة : 168 ] وبيّن سوء حال الكافرين المقلدين ، الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ، لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ، ثمّ وجه الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، وأجدر بالعلم ، وأحرى بالاهتداء . وجوه القراءات 1 - قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } قرأ الجمهور بالبناء للفاعل { حَرَّمَ } أي حرّم الله و { ٱلْمَيْتَةَ } بالتخفيف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالبناء للمفعول والتشديد ( إنما حرّم عليكم الميّتَة ) . قال القرطبي : التشديدُ والتخفيف في ( ميّت ) و ( مَيْت ) لغتان ، وقد جمعا في قول الشاعر : @ ليس من مات فاستراح بميْتٍ إنما المْيتُ ميّتُ الأحياء @@ والمشهور عند أهل اللغة : ( الميْت ) بالتخفيف من مات فعلاً ، وبالتشديد ( ميّت ) من سيموت كما في قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] أي إنك ستموت وإنهم سيموتون . 2 - قرأ الجمهور ( فمن اضطُرّ ) بضم الطاء ، وقرأ أبو جعفر ( فمن اضطِرّ ) بكسر الطاء ، وأدغم ابن محيص الضاد في الطاء ( فمن اطرّ ) . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله . 2 - قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ } إنمّا مكفوفة عن العمل وهي حرف واحد تفيد الحصر و ( الميتة ) مفعول لـ ( حرّم ) والمعنى : ما حرّم عليكم إلا الميتة … الخ . 3 - قوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ } غيرَ منصوب على الحال ( ولا عاد ) معطوف على باغٍ وتقديره لا باغياً ولا عادياً . قال القرطبي : ( غيرَ ) نصبٌ على الحال ، وقيل : على الاستثناء ، وإذا رأيت ( غير ) يصلح في موضعها ( في ) فهي حال ، وإذا صلح موضعها ( إلاّ ) فهي استثناء ، فقس عليه ، و ( باغ ) أصله ( باغيٌ ) ثقلت الضمة على الياء فسكنّت ، والتنوين ساكن ، فحذفت الياء ، والكسرةُ دالة عليها . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : المرادُ من الطيبات الرزقُ الحلال ، فكل ما أحلّه الله فهو طيّب ، وكلّ ما حرّمه فهو خبيث ، قال عمر بن عبد العزيز : المراد ( طيبُ الكسب لا طيبُ الطعام ) . ويؤيده الحديث الشريف : " إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجلَ يطيل السفر ، أشعثَ أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنّى يُستجابُ له ؟ " . فهذا هو بيان الطيّب من الرزق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عطر بعد عروس . اللطيفة الثانية : قال أبو حيان : لمّا أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيّب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بيّن لهم ما حرّم عليهم لكونه أقل ، فلما بيّن ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر ، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عما يلبس المحرم فقال : " لا يلبس القميص ولا السروال " فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ . اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ } إلتفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة ، إذ لو جرى على الأسلوب الأول لقال : " واشكرونا " وفائدة هذا الالتفات تربية المهابة والروعة في القلوب . اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } هو على حذف مضاف أي أكل الميتة وأكل لحم الخنزير مثل قوله تعالى : { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] أي أهل القرية . قال الألوسي : " وإضافة الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريقٍ - وأوكده " . وقال أبو السعود : " وإنما خصَّ لحم الخنزير مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان ، وسائر أجزائه بمنزلة التابع له " . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل المحرّم في آية الميتة الأكلُ أم الانتفاع ؟ ورد التحريم في هذه الآية مسنداً إلى أعيان الميتة والدم ، وقد اختلف الفقهاء هل المحرّم الأكل فقط ، أم يحرم سائر وجوه الانتفاع ، لأنه لما حرم الأكل حرم البيع والانتفاع بشيء منها لأنها ميتة ، إلا ما استثناه الدليل ، وذهب بعض العلماء إلى أن المحرم إنما هو الأكل فقط بدليل قوله تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وبدليل ما بعده في قوله تعالى : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ } أي اضطر إلى الأكل . قال الجصاص : " والتحريم يتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يطعمها الكلاب والجوارح ، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها ، وقد حرّم الله الميتة تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص بدليل يجب التسليم له " . الحكم الثاني : ما هو حكم الميتة من السمك والجراد ؟ تضمنت الآية تحريم ( الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أُهّل لغير الله ) . فأمّا الميتة فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل ، أو مقتولاً بغير ذكاة شرعية ، وكان العرب في الجاهلية يستبيحون الميتة ، فلما حرمها الله تعالى جادلوا في فلك المؤمنين وقالوا : لا تأكلون مما قتله الله ، وتأكلون مما تذبحون بأيديكم ! ! فأنزل الله في سورة الأنعام : [ 121 ] { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } فالميتة حرام بالنص القاطع ، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة منها الأحاديث التالية : أ - قوله صلى الله عليه وسلم : " أُحِلّ لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال " . ب - وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : " هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته " . جـ - وفي " الصحيحين " " عن جابر بن عبد الله أنه خرج مع ( أبي عبيدة بن الجراح ) يتلقى عيراً لقريش ، وزودنا جراباً من تمر ، فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى ( العنبر ) قال أبو عبيدة : ميتةٌ ، ثم قال : بل نحن رُسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اضطررتم فكلوا ، قال : فأقمنا عليه شهراً حتى سمنّا … وذكر الحديث قال : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : هو رزقٌ أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا ؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله " . د - وحديث ابن أبي أوفى " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد " . فقد خصَّص جمهور الفقهاء من الآية ميتة البحر للأحاديث السابقة الذكر ، كما أباحوا أكل الجراد ، إلاّ أن الحنفية حرموا الطافي من السمك وأحلّوا ما جزر عنه البحر لحديث " ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه " . إلاّ أن المالكية أباحوا أكل ميتة السمك ، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة : لأنه لم يصح فيه عندهم شيء . قال القرطبي : " وأكثر الفقهاء يجيزون أكل جميع دوابّ البحر حيها وميتها ، وهو مذهب مالك ، وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزيراً . قال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراماً " . الحكم الثالث : ما هي ذكاة الجنين بعد ذبح أمه ؟ اختلف العلماء في الجنين الذي ذبحت أمه وخرج ميتاً هل يؤكل أم لا ؟ ذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح ، لأنه ميتة وقد قال تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } . وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد إلى أنه يؤكل ، لأنه مذكى بذكاة أمه ، واستدلوا بحديث " ذكاة الجنين ذكاة أمه " . وقال مالك رحمه الله : إنْ تمّ خلقُه ونبت شعره أُكل وإلاّ فلا . قال القرطبي : " إن الجنين إذا خرج بعد الذبح ميتاً يؤكل لأنه جرى مجرى العضو من أعضائها " . وقال من ينتصر لأبي حنيفة : إن الحديث يحتمل معنى آخر هو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه على حد قول القائل قولي قولُك ، ومذهبي مذهبك أي كقولك وكمذهبك وعلى حد قول الشاعر : @ فعيناكِ عيناها وجيدُك جيدُها سوى أنّ عظم الساق منك دقيق @@ الحكم الرابع : هل يباح الانتفاع بالميتة في غير الأكل ؟ ذهب عطاء إلى أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة وجلدها ، كطلاء السفن ودبغ الجلود ، وحجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل خاصة ، ويدل عليه قوله تعالى : { مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [ الأنعام : 145 ] . وذهب الجمهور : إلى تحريمه واستدلوا بالآية الكريمة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] أي الانتفاع بها بأكلٍ أو غيره ، فجعلوا الفعل المقدر هو الانتفاع ، واستدلوا كذلك بقوله عليه السلام : " لعن الله اليهود ، حُرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها " فهذا الحديث يدل على أن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه ، فلا يجوز البيع ولا الانتفاع بشيء من الميتة إلا ما ورد به النص . الحكم الخامس : ما هو حكم الدم الذي يبقى في العروق واللحم ؟ اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس ، لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد ذكر تعالى الدم هٰهنا مطلقاً وقيّده في الأنعام بقوله : { أَو دَماً مَّسْفُوحاً } [ الآية : 145 ] وحمل العلماء المطلق على المقيد ، ولم يحرموا إلا ما كان مسفوحاً ، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( لولا أنّ الله قال أو دماً مسفوحاً لتتبّع الناس ما في العروق ) فما خالط اللحم غير محرم بإجماع ، وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل دماً . قال القرطبي : " وأمّا الدم فمحرّم ما لم تعم به البلوى ، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم والعروق ، وروي عن عائشة أنها قالت : " كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم ، فنأكل ولا ننكره " . الحكم السادس : ماذا يحرم من الخنزير ؟ نصت الآية على تحريم لحم الخنزير ، وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه لا شحمه ، لأن الله قال : { وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } وذهب الجمهور إلى أنّ شحمه حرام أيضاً ، لأن اللحم يشمل الشحم ، وهو الصحيح ، وإنما خصّ الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ، سواء ذُكّى ذكاةً شرعية أو لم يُذكّ . وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير . فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز الخرازة به . وقال الشافعي : لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير . وقال أبو يوسف : أكره الخرز به . قال القرطبي : " لا خلاف أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به ، لأن الخرازة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ، لا نعلم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده ، وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه " . وقد اختلف أهل العلم في خنزير الماء فقال أبو حنيفة : لا يؤكل لعموم الآية . وقال مالك والشافعي والأوزاعي : لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر ، وتفصيل الأدلة ينظر في كتب الفروع . الحكم السابع : ما الذي يباح للمضطر من الميتة ؟ اختلف العلماء في المضطر ، أيأكل من الميتة حتى يشبع ، أم يأكل على قدر سدّ الرمق ؟ ذهب مالك إلى الأول ، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة . وذهب الجمهور : إلى الثاني ، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدرها ، وسبب الخلاف يرجع إلى مفهوم قوله تعالى { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فالجمهور فسروا البغي بالأكل من الميتة لغير حاجة ، والعاد هو المعتدي حد الضرورة . ومالك فسره بالبغي والعدوان على الإمام ، ولكل وجهة والله أعلم . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - إباحة الأكل من الطيبات للمؤمنين بشرط أن يكون من الكسب الحلال . 2 - شكر الله واجب على المؤمنين لنعم الله التي لا تُعد ولا تحصى . 3 - الإخلاص في العبادة لله من صفات المؤمنين الصادقين . 4 - الله جل وعلا حرّم على عباده ( الخبائث ) دون ( الطيبات ) . 5 - حالة الاضطرار تبيح للإنسان الأكل ممّا حرمه الله كالميتة وغيرها . خاتمة البحث : حكمة التشريع أباح الباري جل وعلا لعباده المؤمنين تناول الطيبات ، وحرّم عليهم الخبائث كالميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، ونهاهم عن تعذيب النفس وحرمانها من اللذائذ الدنيوية ، فإن المشركين وأهل الكتاب حرَّموا على أنفسهم أشياء لم يحرمها الله تعالى كالبحيرة والسائبة . وكان المذهب الشائع عند النصارى أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، تعذيب النفس واحتقارها ، وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة ، واعتقاد أنه لا حياة ( للروح ) إلا بتعذيب الجسد ، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء ، وليس لها أثر في شريعة الله . وقد تفضل الله على هذه الأمة بجعلها أمة وسطاً ، تعطي الجسد حقه ، والروح حقها ، فأحلّ لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث ، وأمرنا بالشكر عليها ، ولم يجعلنا ( جثمانيين ) خلّصاً كالأنعام ، ولا ( روحانيين ) خلّصاً كالملائكة ، بل جعلنا أناسيّ كملة بهذه الشيعة المعتدلة . وأما الحكمة من تحريم الميتة فلما فيها من الضرر ، لأنها إمّا أن تكون ماتت لمرض وعلة ، قد أفسد بدنها وجعلها غير صالحة للبقاء والحياة ، وإما أن يكون الموت لسببٍ طارئ . فأما الأولى فقد خبث لحمها ، وتلوث بجراثيم المرض ، فيخشى من عدواها ، ونقل مرضها إلى الآكلين . وأما الثانية : فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارة في جسمها . وأما الدم المسفوح : فلقذارته وضرره أيضاً ، وقد أثبت الطب الحديث أنّ الدم ضار كالميتة وأنه تتجمع فيه ( الميكروبات ) والمواد الضارة . وأما لحم الخنزير : فلأن غذاءه من القاذورات ، والنجاسات فيقذر لذلك ، ولأن فيه ضرراً فقد اكتشف الأطباء أن لحم الخنزير يحمل جراثيم شديدة الفتك ، كما أن المتغذي من لحم الخنزير يكتسب من طباع ما يأكله ، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة ، وأشهرها عدم الغيرة والعفة . يقول شهيد الإسلام سيد قطب عليه رحمة الله في تفسيره " الظلال " ما نصه : " والخنزير بذاته منفرّ للطبع النظيف القويم ، ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ، ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيّسة ) . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر ، لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توفرها وسائل الطهو الحديثة ، وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة ، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حلّلت ، وهي من لدن حكيم خبير ؟ ! أمّا ما أهل به لغير الله ، فهو محرم لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله ، محرم لعلة روحية ، لسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك .