Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 275-281)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 20 ] الربا جريمة اجتماعية خطيرة { ٱلرِّبَٰواْ } : الربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال ربا الشيء يربو : إذا زاد ، ومنه قوله تعالى : { ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] أي زادت ، وفي الحديث " إلاّ رَبَا من تحتها " أي زاد الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة ، وأربى الرجل : إذا تعامل بالربا . وفي الشرع : زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل . { يَتَخَبَّطُهُ } : التخبط معناه الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بيده ، ويقال للذي يتصرف في أمرٍ ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء ، وتخبّطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون ، وتسمّى إصابة الشيطان خبطة . { ٱلْمَسِّ } : الجنون يقال : مُسّ الرجل فهو ممسوس وبه مسٌ ، وأصله من المسّ باليد ، كأن الشيطان يمسّ الإنسان فيحصل له الجنون . قال الراغب : وكنّي بالمسّ عن الجنون ، في قوله : " يتخبطه الشيطان من المسّ " والمسّ يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى . { مَوْعِظَةٌ } : الموعظة : بمعنى الوعظ وهو التذكير بالخير فيما يرق له القلب . { سَلَفَ } : أي مضى وتقدم ، والمعنى : من انتهى عن التعامل بالربى فإن الله تعالى يعفو ويصفح عمّا مضى من ذنبه قبل نزول آية التحريم . { يَمْحَقُ } : المحق : النقص والذهاب ، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه إذا أنقصه وأذهب بركته والمراد أن الله أوعد المرابي بإذهاب ما له وإهلاكه وفي الحديث الشريف : " إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ " . { وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ } : أي يزيدها وينميها ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة . { أَثِيمٍ } : أي كثير الإثم وهو المتمادي في ارتكاب المعاصي ، المصر على الذنوب . { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } : أي أيقنوا بحربٍ من الله ورسوله ، وهذا وعيد لمن لم يذر الربى . { ذُو عُسْرَةٍ } : العُسرة الفقر والضيق يقال : أعسر الرجل إذا افتقر . { فَنَظِرَةٌ } : أي فواجب تأخيره وانتظاره يقال : أنظره إذا أمهله وأخره . { مَيْسَرَةٍ } : أي غنى ويسار ، والمعنى : إذا كان المستدين معسراً فأخروه إلى وقت السعة والغنى ولا تأخذوا منه إلا رأس المال . المعنى الإجمالي يخبر الولي جل وعلا المرابين ، الذي يتعاملون بالربا فيمتصون دماء الناس ، بأنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة ، إلاّ كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً ، لأن به مساً من الشيطان ، ذلك التخبط والتعثر بسبب أنهم استحلوا الربا الذي حرّمه الله ، فقالوا : الربا مثل البيع فلماذا يكون حراماً ؟ وقد ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة السقيمة بأن البيع تبادل منافع وقد أحلّه الله ، والربا زيادة مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه وقد حرمه الله ، فكيف يتساويان ؟ ! ثم أخبر تعالى بأن من جاءته الموعظة والذكرى ، فانتهى عمّا كان قبل التحريم ، فإن الله عز وجل يعفو ويغفر له ، ولا يؤاخذه عمّا أخذ من الربا ، وأمّا من تعامل بالربا بعد نهي الله عنه فإنه يستوجب العقوبة الشديدة بالخلود في نار جهنم لاستحلاله ما حرمه الله . وقد أوعد الله المرابي بمحق ماله ، إمّا بإذهابه بالكلية ، أو بحرمانه بركة ماله ، " فالربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ " كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه ، فلا بدّ أن يزهقه الله ويمحقه لأنه خبيث { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } [ المائدة : 100 ] وأمّا المتصدّق فالله يبارك له في ماله وينميّه ، والله لا يحب كفور القلب ، أثيم القول والفعل . ثمّ جاء الوعيد والتهديد الشديد لمن تعامل بالربا ، وخاصة إذا كان هذا الشخص من المؤمنين ، فالربا والإيمان لا يجتمعان ، ولهذا أعلن الله الحب على المرابين { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } . فأي مسلم يسمع مثل هذا الوعيد ثم يتعامل بالربا ؟ ! اللهم احفظنا من هذه الجريمة الشنيعة ، وطهّرنا من أكل السحت والتعامل بالربا إنك سميع مجيب الدعاء اللهم آمين . سبب النزول 1 - كان العباس وخالد بن الوليد شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى ناسٍ من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا إنّ كل رباً من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس ، وكل دم من دم الجاهلية موضوع ، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب " . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } وقرأ حمزة وعاصم ( فآذنوا بحرب ) بالمد . قال الزجاج : من قرأ { فَأْذَنُواْ } بالقصر ، فالمعنى : أيقنوا ، ومن قرأ بالمد فمعناه أعلموا . 2 - قرأ الجمهور { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } وروي عن عاصم بضم الأولى وفتح الثانية . 3 - قرأ الجمهور { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } بتسكين السين ، وضمها أبو جعفر ( عُسُرة ) . 4 - قرأ الجمهور { يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } بضم التاء ، وقرأ أبو عمرو بفتحها ( تَرْجعون ) . وجوه الإعراب أولاً : قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ } مبتدأ وجملة { لاَ يَقُومُونَ } خبره ، والكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : إلاّ قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان . ثانياً : قوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جواب الشرط محذوف تقديره : إن كنتم مؤمنين فذروا . ثالثاً : قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } كان هنا تامة بمعنى إن حدث ذو عسرة . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : المراد بالأكل في الآية الكريمة مطلق الأخذ والتصرف ، وعبّر به هنا { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ } لأنه الغرض الأساسي من المال ، وما عداه من سائر الوجوه فتبع ، وقد شاع هذا الإطلاق يقال لمن تصرف في مال غيره بدون حق : أكله ، وهضمه . اللطيفة الثانية : تشبيه المرابين بالمصروعين ، الذين يتخبطهم الشيطان ، فيه لطيفة وهي أن الله عزّ وجل أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم ، فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون وتلك سيماهم يوم القيامة يعرفون بها ، قال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الربا يوم القيامة . اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ } تشبيه لطيف يسمى ( التشبيه المقلوب ) وهو أعلى مراتب التشبيه حيث يصبح المشبّه مشبهاً به مثل قولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفه ، على حدّ قول القائل : @ فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها سوى أنّ عظم الساق منك دقيق @@ ومقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتفق على حله ، ولكنّه بلغ اعتقادهم في حل الربا ، أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل ، حتى شبّهوا به البيع ، فتدبّره فإنه دقيق . اللطيفة الرابعة : النكتة في الآية الكريمة { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ } أنّ المرابي يطلب الربا زيادة المال ، ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال ، فبيّن سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء ، وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان ، والزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين . اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } تنكير الحرب للتفخيم وقد زادها فخامة وهولاً ، نسبتُها إلى اسم الله الأعظم ، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته صلى الله عليه وسلم ، أي أيقنوا بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره ، كائن من عند الله ورسوله ، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً ، وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكل الربا . قال ابن عباس : يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب . اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } صيغة كفّار ( فعّال ) وصيغة أثيم ( فعيل ) كلاهما من صيغ المبالغة ومعناهما كثير الكفر والإثم ، وفي الآية تغليظ لأمر الربا ، وإيذانٌ بأنه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين . اللطيفة السابعة : رغّب الله تعالى في إنظار المستدين المعسر { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } وكذلك جاءت السنة المطهرة فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان رجلٌ يداين الناس ، فكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا ، فلقي الله فتجاوز عنه " . قال المهايمي : " فإذا استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون ، استوفى الله منه حقوقه بالتضييق ، وإن سامحه فالله أولى بالمسامحة " . اللطيفة الثامنة : قال بعض العلماء : من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه ، أكبَرَ جرمَهُ وإثمه ، فقد ترتب عليه قيامهم في الحشر مخبلين ، وتخليدهم في النار ، ونبذهم بالكفر ، والحرب من الله ورسوله ، واللعنة الدائمة لهم ، وكذلك الذم والبغض ، وسقوط العدالة وزوال الأمانة ، وحصول القسوة والغلظة ، والدعاء عليه ممن ظلمه ، وذلك سبب لزوال الخير والبركة ، فما أقبح هذه المعصية ، وأعظم جرمها ، وأشنع عاقبتها ؟ ! اللطيفة التاسعة : ختمت آيات الربا بهذه الآية الكريمة { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وهي آخر آية نزلت من القرآن ، وعاش بعدها النبي صلى الله عليه وسلم تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى ، وفي هذه الآية تذكير بالوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] وبنزول هذه الآية انقطع الوحي ، وكان ذلك آخر اتصال السماء بالأرض . " الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا " من المستحسن أن نذكر هنا الأدوارالتي مرّ بها تحريم الربا ، حتى ندرك سر التشريع الإسلامي ، في معالجته للأمراض الاجتماعية ، فمن المعلوم أن التشريع الإسلامي سار ( بسُنّة التدرج ) في تقرير الأحكام . ولقد مرّ تحريم " الربا " بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر ، وذلك تمشياً مع قاعدة التدرج : الدور الأول : نزل قوله تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ } [ الروم : 39 ] وهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي - كما يظهر - ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا ، وأن الربا ليس له ثواب عند الله فهي إذن ( موعظة سلبية ) . الدورالثاني : نزل قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 160 - 161 ] . وهذه الآية مدنية ، وهي درس قصه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذي حرم عليهم الربا فأكلوه واستحقوا عليه اللعنة والغضب ، وهو تحريم ( بالتلويح ) لا ( بالتصريح ) لأنه حكاية عن جرائم اليهود وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين . وهذا نظير ( الدور الثاني ) في تحريم الخمر { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] الآية حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح . الدور الثالث : نزل قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً } [ آل عمران : 130 ] . الآية وهذه الآية مدنية وفيها تحريم للربا صريح ولكنه تحريم ( جزئي ) لا ( كلي ) لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى ( الربا الفاحش ) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذروة العليا ، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى ، حيث كان الدَيْنُ فيه يتزايد حتى يصبح أضعافاً مضاعفة ، يضعف عن سداده كاهل المستدين ، الذي استدان لحاجته وضرورته وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئياً لا كلياً في أوقات الصلاة { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ … } [ النساء : 43 ] الآية . الدور الرابع : وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع ، الذي لا يفرّق فيه القرآن بين قليل أو كثير ، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا ، فقد نزل قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ … } الآيات . وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه حيث حرمت الخمر تحريماً قاطعاً جازماً في قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] . وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق ( التدرج ) . الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما هو الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية ؟ الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان : ( ربا النسيئة ) و ( ربا الفضل ) . أما الأول ( ربا النسيئة ) : فهو الذي كان معروفاً في الجاهلية وهو أن يقرضه قدراً معيناً من المال إلى زمن محدود كشهرٍ أو سنة مثلاً مع اشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل . قال ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله : " إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه الدين أخّر عني ديْنَك وأزيدك على مالك ، فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة ، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه " . وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية ، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد . أما الثاني ( ربا الفضل ) : فهو الذي وضحته السنّة النبوية المطهرة ، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر ، مثاله : أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر ، أو رطلاً من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي ، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات . والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه ( إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة والنّساء ، وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء ) . وتوضيحاً لهذه القاعدة الفقهية نقول : إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت ، أو قمح بقمح ، أو عنبٍ بعنب ، أو تمر بتمر ، حرمت الزيادة مطلقاً ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا ، وإذا اختلفت الأجناس كقمح بشعير ، أو زيت بتمر مثلاً جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبُرّ بالبُرّ ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثلٍ ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء " وفي حديث آخر " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " أي مقبوضاً وحالاً . الحكم الثاني : هل يباح الربا القليل ؟ وما المراد من قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً } [ آل عمران : 130 ] . يذهب بعض ضعفاء الإيمان ( من مسلمي هذا العصر ) إلى أن الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش ، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة ، ويقصد منه استغلال حاجة الناس ، أما الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرم ، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأنّ الله تبارك وتعالى إنما حرم الربا إذا كان فاحشاً حيث قال تبارك وتعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً } [ آل عمران : 130 ] فالنهي إنما جاء مشروطاً ومقيداً بهذا القيد وهو كونه مضاعفاً أضعافاً كثيرة ، فإذا لم يكن كذلك ، وكانت النسبة فيه يسيرة فلا وجه لتحريمه . وللجواب على ذلك نقوله : أولاً : إن قوله تعالى : { أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً } [ آل عمران : 130 ] ليس قيداً ولا شرطاً ، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية ، كما يتضح من سبب النزول ، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً ، حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفاً أضعافاً كثيرة . ثانياً : إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره ، فهذا القول يعتبر خروجاً على الإجماع كما لا يخلو عن جهلٍ بأصول الشريعة الغراء ، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره ، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرّمه ( كلياً ) أخذاً بقاعدة ( سدّ الذرائع ) لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه ، والربا كالخمر في الحرمة فهل يقول مسلم عاقل إن القليل من الخمر حلال ؟ ثالثاً : نقول لهؤلاء الجهلة ( من أنصاف المتعلمين ) : " أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ ؟ " فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة ، ولا تقرؤون قوله تعالى : { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَٰواْ } وقوله تعالى : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ } وقوله تعالى : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ } هل في هذه الآيات ما يقيد الربا بالقليل أو الكثير أم اللفظ مطلق ؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر " لعن رسول الله آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ، وقال هم سواء " فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية ، والقليل والكثير في الحرمة سواء . وصدق الله حيث يقول : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة . 2 - الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار . 3 - القليل من الربا والكثير في الحرمة سواء . 4 - على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه . 5 - السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنما هو تقوى الله . خاتمة البحث حكمة التشريع اعتبرت الشريعة الإسلامية الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية ، وشنّت عليه حرباً لا هوادة فيها ، وأوعد القرآن الكريم المتعاملين به عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من تصوير حالة المرابين بذلك التصوير الشنيع الذي صورهم به القرآن ، صورة الشخص الذي به مسّ من الجن ، فهو يتخبط ويهذي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه . ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية - أراد الإسلام إبطاله - ما بلغ من تفظيع أمر الربا ، ولا بلغ من التهديد في منكر من المنكرات كما بلغ في شأن الربا ، فالربا في نظر الإسلام جريمة الجرائم ، وأساس المفاسد ، وأصل الشرور والآثام ، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان . الصدقة عطاء وسماحة ، وطهارة وزكاة ، وتعاون وتكافل … والربا شحّ ، وقذارة ، ودنس ، وجشع ، وأثرة ، وأنانية . الصدقة نزولٌ عن المال بلا عوضٍ ولا ردّ ، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه ، من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لكدّه وعمله ، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر ، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله . فلا عجب إذاً أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم ، الاجتماعية والدينية ، وأن يعلن على المرابين الحرب { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه ، ويمكننا أن نجمل هنا بعض هذه الأضرار في فقرات : أولاً : ضرر الربا من الناحية النفسية . ثانياً : ضرر الربا من الناحية الاجتماعية . ثالثاً : ضرر الربا من الناحية الاقتصادية . أما ضرر الربا من الناحية النفسية : فإنه يولّد في الإنسان حب ( الأثرة والأنانية ) فلا يعرف إلا نفسه ، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه ، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار ، وتنعدم معاني حبّ الخير للأفراد والجماعات ، وتحلّ محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية ، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدو الإنسان ( المرابي ) وحشاً مفترساً لا يهمه من الحياة إلا جمع المال ، وامتصاص دماء الناس ، واستلاب ما في أيديهم ، ويصبح ذئباً ضارياً في صورة إنسان وديع ، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس ويحل محلها الجشع والطمع . أما ضرر الربا من الناحية الاجتماعية : فإنه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس ، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان ، والتعاون والإحسان في نفوس البشر ، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء ، ويدمّر قواعد المحبة والإخاء ، ومن المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبَه الشفقةُ والرحمةُ ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية سوف يعدم كل احترام أو عطفٍ من أبناء مجتمعه ، وتكون النظرة إليه نظرة إزدراء واحتقار ، وكفى ( المرابي ) مقتاً وهواناً أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه بل إنه عدوّ للإنسانية لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم . أما ضرر الربا من الناحية الاقتصادية : فهو ظاهر كل الظهور لأنه يقسم الناس إلى طبقتين : طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية ، والتمتع بعرق جبين الآخرين وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة ، والبؤس والحرمان ، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين ، وقد ثبت أن ( الربا ) أعظم عامل من عوامل تضخم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر ، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات حيث كثرت المحن والفتن ، وازدادت الثورات الداخلية وإنا لله وإنا إليه راجعون .