Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 56-58)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 6 ] الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التحليل اللفظي { يُصَلُّونَ } : الصلاة في اللغة معناها : الدعاء والاستغفار ، ومنه قوله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } [ التوبة : 103 ] أي أدع لهم بالمغفرة والرحمة قال الأعشى : @ عليكِ مثلَ الذي صلّيتِ فاغتمضي نوماً فإنّ لجنب المرء مضطجعاً @@ أي لك من الدعاء مثل ما دعوتِ لي به . وسميت الصلاة المفروضة صلاة لما فيها من الدعاء والاستغفار ، وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى " ، قال الأزهري : هي بمعنى الرحمة ، أي ارحم آل أبي أوفى ، وقال الشاعر : @ صلّى على عزّة الرحمٰنُ وابنتِها ليلى وصلّى على جاراتها الأخر @@ قال ابن عباس : " أراد أنّ الله تعالى يرحمه ، والملائكة يدعون له ويبرّكون " . وقال أبو العالية : " صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاتهم دعاؤهم له " . { ٱلنَّبِيِّ } : قال الجوهري : والنبي : المخبر عن الله عز وجلّ ، لأنه أنبأ عنه وجمعه أنبياء ، وفي " النهاية " : يجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه . قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلاّ ويقول تنبّأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرّية والبريّة ، إلا أهل مكة فإنهم يهمزون هذه الأحرف ، ثم قال : والهمز في ( النبيّ ) لغة رديئة ، واشتقاقه من نبأ وأنبأ أي أخبر . وجمع النبيء : أنْبِئَاء ونُبَآء . قال ابن مرداس : @ يا خاتم النّبَآء إنّك مرسلٌ بالخبر كلّ هُدى السبيل هُداكا إنّ الإلٰهَ ثَنَى عليك محبةً في خلقِهِ ومحمّداً أسماكا @@ أقول : كل ما ورد في القرآن من خطاب للنبي أو الرسول فإنما يقصد به محمد عليه الصلاة والسلام ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين . { يُؤْذُونَ ٱللَّهَ } : إيذاء اللَّهَ : وصفُه بما لا يليق به جلّ وعلا كقول اليهود : ( يد الله مغلولة ) ، و ( عزير بن الله ) ، وقول النصارى : المسيح ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة ، وقول كفار قريش : الملائكة بنات الله ، وسائر ما لا يرضي الله عز وجلّ من الكفر والعصيان . وإيذاء الرسول كقولهم عنه بمجنون ، شاعر ، ساحر ، كذّاب ، أو إلحاق الأذى به كشجّ وجهه الشريف وكسر رباعيته في أُحد ، وأمثال ذلك من الأذى الحسي أو الأذى المعنوي ، الذي كان يحلقه به المنافقون والكفار . { لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } : اللعن : الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجلّ ، قال تعالى : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] . { بُهْتَاناً } : البهتان : الافتراء والكذب الواضح ، وهو من البهت بمعنى التحيّر . قال في اللسان : بهت الرجل يبهتُه بهتاناً ، وباهته : استقبله بأمرٍ يقذفه به وهو منه برئ ، والبهتان : الباطل الذي يتحير من بطلانه . { مُّبِيناً } : بيناً ظاهراً لأنه واضح الكذب والبهتان ، تقول : بان الشيء ، وبان الأمر ، وبان الحق ، إذا ظهر جلياً واتضح ، قال الشاعر : @ فبان للعقل أن العلم سيِّدُه فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا @@ وتسمّى البيّنة بيّنة لأنها تكشف الحق وتظهره . المعنى الإجمالي يخبر المولى جلّ وعلا بما ناله الرسول الكريم ، من جاهٍ عظيم ، ومنزلة سامية ، ومكانة رفيعة عند الله تعالى ، وما له من السيادة والمقام المحمود في الملأ الأعلى ، وما خصّه الله تعالى به من الثناء العاطر ، والذكر الحسن ، فيقول الله تعالى ما معناه : " إن الله تعالى يرحم نبيه ، ويعظم شأنه ، ويرفع مقامه ، وملائكته الأبرار ، وجنده الأطهار ، يدعون للنبي عليه السلام ويستغفرون له ، ويطلبون من الله أن يبارك ويمجّد عبده ونبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويُنيله أعلى المراتب ، ويُظْهر دينه على جميع الأديان ، ويُجْزل له الأجر والثواب ، على ما قدّم لأمته من خير عميم ، وفضل جسيم … فيا أيها المؤمنون : صلّوا أنتم عليه ، وعظّموا أمره ، واتبعوا شرعه ، وأكثروا من الصلاة عليه والتسليم ، فحقه عليكم عظيم ، ومهما فعلتم فلن تؤدوه حقه ، فقد كان المنقذ لكم من الضلالة إلى الهدى ، وبه أخرجكم الله من الظلمات إلى النور { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 9 ] فقولوا كلما ذكر اسمه الشريف : اللهم صل على محمد وسلّم تسليماً كثيراً ، وادعوا الله أن يجزيه عنكم خير الجزاء . ثمّ أخبر تعالى أن الذين يؤذون الله ورسوله قد استحقوا غضب الله ولعنته عليهم في دنياهم وآخرتهم ، وأنّ الله أعدّ لهم عذاباً شديداً لا يُدْرك كنهه ولا يُعْرف هوله ، وكذلك الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات ، فنسبوا إليهم ما لم يفعلوه ، واتهموهم بالكذب ، والزور ، والبهتان ، وتقوّلوا على ألسنتهم ، ما لم يقولوه ، هؤلاء الذين فعلوا ذلك لهم أيضاً عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ما اقترفوا من سيِّئ الأعمال . وجه الارتباط بالآيات الكريمة السابقة في الآيات الكريمة السابقة كان الحديث عن حرمة دخول بيوت النبي . وعن حرمة نكاح أزواجه الطاهرات ، وقد بيّن تعالى فيها أن شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول عليه الصلاة والسلام ، لما له عليهم من حق عظيم ، وفي هذا توجيه وإرشاد إلى تكريمه صلى الله عليه وسلم وحياطة لمقامه الشريف وهنا بيّن تعالى أن الله يكرّم نبيّه ويرحمه ويعلى شأنه ، وملائكتُه كذلك ، فكيف لا يكرّمه المؤمنون مع أن الله يصلّي عليه ؟ وهو لا يستحق إلا كلّ تكريم وتمجيد ، فكأنه قيل لهم : لا ينبغي لكم أن تؤذوه ، فإن الله يصلّي عليه وملائكته ، فهذا وجه الارتباط والله تعالى أعلم . وجوه القراءات قرأ الجمهور ( إنّ اللَّهَ وملائكتَه ) بنصب ( الملائكة ) عطفاً على لفظ الجلالة ، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ( وملائكتُه ) بالرفع ويكون الخبر محذوفاً تقديره : إنَّ الله يصلي ، وملائكته يصلّون . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } الجملة الفعلية في محل رفع خبر ( إنّ ) . 2 - قوله تعالى : { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } ( سلّموا ) أمر ، و ( تسليماً ) مفعول مطلق منصوب . 3 - قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } اسم الموصول اسم ( إنّ ) والخبر جملة { لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ } . ورد ذكر الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة ، فجاء الخبر مؤكداً بـ ( إنّ ) اهتماماً به ، وجيء بالجملة اسمية لإفادة الدوام ، وكانت الجملة إسمية في صدرها ، { إِنَّ ٱللَّهَ } فعلية في عجزها { يُصَلُّونَ } للإشارة إلى أن هذا الثناء من الله تعالى ، والتمجيد الدائم يتجدّد وقتاً فوقتاً على الدوام ، فتدبّر هذا السرّ الدقيق . اللطيفة الثانية : قد يقول قائل : إذا صلَّى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا عليه ؟ نقول : الصلاة عليه ليس لحاجته إليها ، وإلاّ فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه عليه السلام ليثيبنا الله تعالى عليه ، ولهذا قال عليه السلام : " من صلّى عليّ مرة صلّى الله عليه بها عشراً " فصلوات ربي وسلامه عليه . اللطيفة الثالثة : قال الإمام الفخر : الصلاة الدعاء ، يقال في اللغة صلّى عليه : أي دعا له ، وهذا المعنى غير معقول في حقّ الله تعالى ، فإنه لا يدعو له ، لأنّ الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث ، والجوابُ : أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً ، وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظٍ جائز وهذا مذهب الشافعي رحمه الله ، فالصلاة من الله بمعنى الرحمة ، ومن الملائكة بمعنى الاستغفار ، وهما يشتركان في العناية بحال المرحوم ، والمستغفر له ، والمراد هو القدر المشترك . اللطيفة الرابعة : أمرنا الله بالصلاة على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكان يكفي أن نقول صلينا عليه أو يقول الإنسان : أصلي عليه ، فلماذا نقول عند الصلاة عليه : اللهم صلِّ على محمد ؟ والجواب : أنَّ الله لما أمرنا بالصلاة عليه ، ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك ، أحلناه على الله تعالى ، وقلنا : اللهم صلّ أنت على محمد ، لأنك أعلم بما يليق به ، فنحن عاجزون عن توفيته حقه ، وقاصرون عن معرفة الثناء الذي يليق بقدره ، وقد أوْكَلْنا الأمر إليك . فتدبر سرّ هذه الجملة ( اللهم صل على محمد ) فإنه نفيس ودقيق . اللطيفة الخامسة : قال بعض العلماء : معنى قولنا : اللهم صل على محمد أي عظِّمْه في الدنيا بإعلاء ذكره ، وإظهار دعوته ، وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته ، وتضعيف أجره ومثوبته ، وإعطائه المقام المحمود . فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 1 - عن أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى في وجهه ، فقلنا إنّا لنرى البشرى في وجهك ! ! فقال : " إنه أتاني الملك فقال يا محمد : إن ربك يقول : أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشراً ، ولا يسلّم عليك أحد إلا سلّمت عليه عشراً ؟ … " . 2 - وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة " . 3 - وقال صلى الله عليه وسلم : " البخيل الذي من ذكرتُ عنده فلم يصلّ عليّ " . اللهمّ اجعل صلواتك ، ورحمتك ، وبركاتك ، على سيّد المرسلين ، وإمام المتقين ، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، إنك سميع مجيب الدعاء . الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما هي صيغة الصلاة والتسليم على النبي عليه السلام ؟ صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وردت فيها طرق كثيرة من السنة النبوية المطهَّرة ، وقد ذكرت فيها صور مختلفة عن كيفية الصلاة عليه من المؤمنين ، واختلافُها يشعر بأن الغرض ليس تحديد ( كيفية خاصة ) وإنما هي ألوان من التعظيم والثناء له عليه السلام ، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات ، لأنّ استيعابها يطول ، فنقول ومن الله نستمد العون : أولاً : روى الشيخان عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال : قال رجل يا رسول الله : أمّا السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال قل : " اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد " . ثانياً : وروى مالك وأحمد والشيخان عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله : كيف نصلي عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا : " اللهمّ صل على محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " . ثالثاً : وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قلنا يا رسول الله : هذا السلام عليك قد علمناه فكيف الصلاة عليك ؟ فقال " قولوا : " اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد " " . رابعاً : وروى مسلم والترمذي والنسائي عن أبي مسعود البدري أنه قال : أتانا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس ( سعد بن عُبادة ) فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلي عليك ؟ فسكت حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال قولوا : " اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، والسلام كما علمتم " . وفي بعض رواياته : " اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد " . وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة . وما دام المراد تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم فأي عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها . وأما التسليم فصيغته معروفة وهي أن يقول المؤمنون : السلام عليك يا رسول الله . وفي التشهد يقول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ومعنى التسليم : الدعاء بالسلامة من جميع البلايا والآفات والأسقام ، وذهب ابن السائب إلى أن معنى التسليم : الانقياد وعدم المخالفة أي سلّموا لما يأمركم به والله أعلم . الحكم الثاني : ما معنى صلاة الله والملائكة على النبي عليه السلام ؟ تقدّم معنا أن الصلاة في اللغة تأتي بمعنى ( الدعاء ) وتأتي بمعنى ( الرحمة ) وتأتي بمعنى ( التمجيد والثناء ) ومن الأخير قوله تعالى : { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] . وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة من الله تعالى على نبيه معناها تمجيده والثناء عليه وإلى هذا ذهب البخاري وطائفة من العلماء وهو الأظهر . وقال آخرون : المراد بالصلاة على النبي رحمته ومغفرته ، إلى هذا ذهب الحسن البصري وسعيد بن جبير ، وقيل : المراد بها البركة والكرامة . وأما صلاة الملائكة فمعناها : الدعاء له عليه السلام والاستغفار لأمته ، وعلى جميع الأقوال فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة . ولما جاء اللفظ مجموعاً مضافاً إلى واو الجماعة { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } وكانت الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة لذلك فقد اختلف المفسّرون في تأويل الآية على أقوال : أ - فذهب بعضهم إلى أنّ في الآية حذفاً دلّ عليه السياق تقديره : إن الله يصلي على النبي ، وملائكته يصلون على النبي ، فتكون واو الجماعة راجعة إلى الملائكة خاصة ويؤيد هذا قراءة الرفع ( وملائكتُه ) وليس اللفظ مشتركاً بين الله تعالى وملائكته . ب - وذهب بعضهم إلى أنه من باب ( الجمع بين الحقيقة والمجاز ) وهو اختيار الفخر الرازي ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله ، فعنده يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه معاً كما يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فيكون لفظ ( يُصلُّون ) عائداً إلى الله وإلى الملائكة بالمعنيين معاً ويصبح معنى الآية : ( إن الله تعالى يرحم نبيّه وملائكته يدعون له ) . جـ - وذهب جماعة إلى القول بأنه من باب ( عموم المجاز ) لا من باب ( الجمع بين الحقيقة والمجاز ) فيقدِّرون معنى مجازياً عاماً ، ينتظم أفراداً كثيرة يشملها هذا اللفظ ، وهذا المعنى العام هو مثلاً ( العناية بشأن النبي صلى الله عليه وسلم ) فالاعتناء يكون من الله تعالى على وجه ، ويكون من الملائكة على وجه آخر ، وهذا اختيار أبي السعود وأبي حيان والزمخشري ، وغيرهم من مشاهير المفسرين . قال أبو السعود : قوله تعالى : { يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } قيل : الصلاة من الله تعالى الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، وقال ابن عباس : أراد أن الله يرحمه ، والملائكة يدعون له . . فينبغي أن يراد في { يُصَلُّونَ } معنى مجازي عام ، يكون كل واحد من المعاني المذكورة فرداً حقيقياً له ، أي يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره ، ويهتمون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه ، وذلك من الله سبحانه بالرحمة ، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار . وقال أبو حيان في " البحر المحيط " : " وصلاة الله غير صلاة الملائكة فكيف اشتركا ؟ والجواب : اشتركا في قدْرٍ مشترك وهو إرادة وصول الخير إليهم ، فالله تعالى يريد برحمته إياهم وصول الخير إليهم ، والملائكة يريدون بالاستغفار ذلك " . الحكم الثالث : هل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الندب أو الفرض ؟ أمر الله سبحانه المؤمنين بالصلاة على نبيه الكريم ، وهذا الأمر للوجوب فتكون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة ، ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر ، بل لقد حكى ( القرطبي ) الإجماع على ذلك ، عملاً بما يقتضيه الأمر ( صلّوا ) من الوجوب ، وتكون الصلاة والسلام في ذلك كالتلفظ بكلمة التوحيد ، حيث لا يصح إسلام الإنسان إلا بالنطق بها . وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل تجب في كل مجلس ، وكلما ذكر اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم ؟ أم هي مندوبة ؟ وذلك بعد اتفاقهم على أنها واجبة في العمر مرة . أ - فقال بعضهم : إنها واجبة كلَّما ذُكر اسم النبي عليه السلام . ب - وقال آخرون : تجب في المجلس مرة واحدة ولو تكرَّر ذكره عليه السلام في ذلك المجلس مرات . جـ - وقال آخرون : يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد أو مجلس ، ولا يكفي أن يكون في العمر مرة . وحجة القائلين بالوجوب في المجلس ، أو كلما ذكر اسم الرسول عليه الصلاة والسلام ، أن الله عز وجلّ أمر بها ، والأمر يفيد التكرار ، ثمّ ما ورد من الوعيد الشديد لمن لم يصلّ على رسول الله عليه السلام ، كقوله : " البخيل الذي من ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ " رواه الترمذي . وقوله عليه السلام : " ما من قوم يجلسون في مجلسٍ ثم يقومون منه لا يذكرون الله ولا يصلُّون على نبيه إلاّ كان تِرَةً عليهم يوم القيامة " . وقول جبريل للنبي عليه السلام : " بَعُدَ من ذكرتَ عنده فلم يصلّ عليك ، فقلت آمين " . فهذه تفيد الوجوب عندهم . وذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قربة وعبادة ، كالذكر والتسبيح والتحميد ، وأنها واجبة في العمر مرة ، ومندوبة ومسنونة في كل وقت وحين ، وأنه ينبغي الإكثار منها لما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صلى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً " وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة الشهيرة في فضل الصلاة على النبي عليه السلام ، فهي مطلوبة ولكن لا على سبيل ( الوجوب ) بل على سبيل ( الندب ) والاستحباب . قال العلامة أبو السعود : " والذي يقتضيه الاحتياط ، ويستدعيه معرفة علو شأنه عليه الصلاة والسلام ، أن يصلي عليه كلما جرى ذكره الرفيع " . وما ذهب إليه الجمهور هو الأصح والأرجح والله تعالى أعلم . الحكم الرابع : هل تجب الصلاة على النبي عليه السلام في الصلاة ؟ اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على مذهبين : أ - مذهب الشافعي وأحمد : أنها واجبة في الصلاة ولا تصح الصلاة بدونها . ب - مذهب مالك وأبي حنيفة : أنها سنّة مؤكدة في الصلاة وتصح الصلاة بدونها مع الكراهة والإساءة . أدلة الشافعية والحنابلة : استدل الشافعية والحنابلة على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في الصلاة بأدلة نوجزها فيما يلي : أ - الأمر الوارد في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } والأمر يقتضي الوجوب ، ولا وجوب في غير التشهد ، فتكون الصلاة على النبي واجبة في الصلاة . ب - حديث كعب بن عجرة : ( قلنا يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد … " الحديث وقد تقدم . قال ابن كثير رحمه الله : " ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ، فإن تركه لم تصحّ صلاته ، وهو ظاهر الآية ، ومفسّر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وإليه ذهب ابن مسعود وجابر بن عبد الله " . أدلة المالكية والأحناف : واستدل المالكية والأحناف على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي : أ - قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } قالوا : قد تضمنت هذه الآية الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وظاهره يقتضي الوجوب ، فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدّى فرضه ، وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه ، والأمر يقتضي الوجوب لا التكرار . ب - حديث ابن مسعود حين علّمه صلى الله عليه وسلم التشهد فقال : " إذا فعلتَ هذا ، أو قلتَ هذا ، فقد تمت صلاتك ، فإن شئت أن تقوم فقم ، ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت " ولم يأمره بالصلاة على النبي عليه السلام . جـ - حديث معاوية السلمي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن " ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . د - ما روي عن كثير من الصحابة أنهم كانوا يكتفون بالتشهد في الصلاة وهو ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) ولا يوجبون الصلوات الإبراهيمية . قال أبو بكر الرازي : " وزعم الشافعي أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في الصلاة ، وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم - فيما نعلمه - وهو خلاف الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لفرضها في الصلاة … " . ثم ساق بعض الأدلة في تفسيره " أحكام القرآن " - وقد ذكرنا بعضها - ثم قال : وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في " شرح مختصر الطحاوي " . الحكم الخامس : هل تجوز الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟ يرى بعض العلماء أن الصلاة تجوز على غير الأنبياء ، لأن الصلاة معناها الدعاء ، والدعاء يجوز للأنبياء ولغير الأنبياء ، واستدلوا بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : " اللهم صلِّ على آل أبي أوفى " . وذهب الأكثرون إلى أن الصلاة ( شعار ) وهي خاصة بالأنبياء ، فلا تجوز لغيرهم فلا يصح أن تقول : اللهم صلّ على الشافعي مثلاً أو على أبي حنيفة ، وإنما تترحم عليهما ، ويجوز الترضي عن الصحابة والتابعين ولا تجوز الصلاة عليهم لأنها شعار الأنبياء والمرسلين . قال العلاّمة أبو السعود : " وأمّا الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتجوز تبعاً ، وتكره استقلالاً ، لأنه في العرف شعار ذكر الرسل ، ولذلك لا يجوز أن يقال : " محمدٌ عزَّ وجل " مع كونه صلى الله عليه وسلم عزيزاً جليلاً " . والمراد بقوله تبعاً أن تقول مثلاً : اللهم صلّ على محمد وآله وذريته وأتباعه المؤمنين ، فلا يصح أن تقول : اللهم صل على ذرية محمد ، ولا اللهم صلّ على أزواج محمد ، وإنما إذا صليت على الرسول يجوز لك أن تضيف تبعاً من شئت من عباد الله الصالحين ، والله أعلم . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - منصب النبوة منصب عظيم ، ومكانة الرسول مكانة عظيمة عند الله تعالى . 2 - ثناء الله عز وجل على نبيه الكريم وثناء الملائكة الأطهار مظهر من مظاهر رفعة الرسالة . 3 - احترام الرسول وتعظيم أمره واجب على المؤمنين لأنه من تعظيم أمر الله وطاعته جلّ وعلا . 4 - الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون بالصيغة الشرعية " اللهم صلي على محمد " الخ . 5 - يندب للمسلم أن يصلي على الرسول كلما ذكر اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم امتثالاً للأمر الإلٰهي . 6 - إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم إيذاء لله تعالى وهو سبب لسخط الله وغضبه . 7 - إيذاء المؤمنين واتهامهم بما ليس فيهم من الكبائر التي ينبغي أن يبتعد عنها المسلم . خاتمة البحث : حكمة التشريع مجّد الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأثنى عليه الثناء العاطر ، ورفع مكانته على جميع الأنبياء والمرسلين ، وأحله المحل الرفيع الذي يليق بمنزلته السامية ، ومرتبته العالية ، وأمر المؤمنين بالتأدب مع الرسول الكريم ، وبتعظيم أمره ، وتمجيد شأنه ، وصلى عليه في الملأ الأعلى مع الملائكة الأطهار ، وكل ذلك ليعلّم المؤمنين مكانة هذا النبي العظيم ، ليجلّوه ويحترموه ، ويطيعوا أمره لأنه سبب سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفتح : 9 ] . وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصلاة على الرسول الكريم ، وجعل ذلك فرضاً لازماً لا يتم إيمان بدونه ، وحرّم إيذاءه بالقول أو الفعل ، ونهى عن كل ما يمسّ مقامه الشريف من إساءة أو عدوان ، وجعل ذلك إيذاء له تعالى ، لأنّ في تكذيبه صلى الله عليه وسلم تكذيباً لله تعالى ، وفي الاستهزاء بدعوته استهزاءً بالله تعالى ، لأنه رسول رب العالمين . فيجب أن يُطاع في كل أمر ، وأن يحترم قوله لأنه مبلّغ عن الله وصدق الله حيث يقول { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] . وقد حكم الله جلّ وعلا باللعنة والغضب على من آذى الرسول عليه السلام ، لأنه كفرانٌ للنعمة ، وجحودٌ للفضل الذي أسداه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ، وكيف يليق بالمؤمن أن يؤذي رسول الله مع أنه صلوات الله عليه سبب لإنقاذنا من الضلالة ، وإخراجنا من الظلمات إلى النور ؟ ! وهو باب الرحمة الإلٰهية ، ومظهر الفضل والإحسان والجود : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين . وصدق من قال :