Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 34-36)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 4 ] وسائل معالجة الشقاق بين الزوجين التحليل اللفظي { قَوَّٰمُونَ } : قوّام : صيغة مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته ، فالرجل قوام على امرأته كما يقوم الوالي على رعيته بالأمر والنهي ، والحفظ والصيانة . { قَٰنِتَٰتٌ } : أصل القنوت دوام الطاعة ، ومنه القنوت في الصلاة والمراد أنهن مطيعات لله ولأزواجهن . { نُشُوزَهُنَّ } : عصيانهن وترفعهن عن طاعتكم ، وأصل النشز المكان المرتفع ومنه تلّ ناشز أي مرتفع . قال في " اللسان " : النشوز يكون بين الزوجين ، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه ، واشتقاقه من النَشَز وهو ما ارتفع من الأرض ، ونشز الرجل إذا كان قاعداً فنهض قائماً ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ } [ المجادلة : 11 ] . { فَعِظُوهُنَّ } : أي ذكّروهن بما أوجب الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة للأزواج . { ٱلْمَضَاجِعِ } : المراد بهجر المضاجع هجر الفراش والمضاجعة . قال ابن عباس : الهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها . وقيل : أن يعزل فراشه عن فراشها . { شِقَاقَ } : الشقاق : الخلاف والعداوة وهو مأخوذ من الشق بمعنى الجانب ، لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر بسبب العداوة والمباينة . { حَكَماً } : الحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين المتنازعين . { وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ } : الجار البعيد أو الذي ليس له قرابة تربطه بجاره وأصله من الجنابة ضد القرابة . { وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ } : هو الرفيق في السفر ، أو طلب العلم ، أو الشريك وقيل : هي الزوجة . { مُخْتَالاً فَخُوراً } : قال ابن عباس : المختال البطر في مشيته ، والفخور المفتخر على الناس بكبره . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه : الرجال لهم درجة الرياسة على النساء ، بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير ، وخصّهم به من الكسب والإنفاق ، فهم يقومون على شؤون النساء كما يقوم الولاة على الرعايا بالحفظ والرعاية وتدبير الشؤون . ثمّ فصّل تعالى حال النساء تحت رياسة الرجل ، وذكر أنهن قسمان : قسم صالحات مطيعات ، وقسم عاصيات متمردات ، فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج ، حافظات لأوامر الله ، قائمات بما عليهن من حقوق ، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة ، وأموال أزواجهن عن التبذير في غيبة الرجال ، فهنّ عفيفات ، أمينات ، فاضلات . وأما القسم الثاني وهنّ النساء الناشزات المتمردات المترفعات على أزواجهن ، اللواتي يتكبرن ويتعالين عن طاعة الأزواج ، فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن طريق النصح والإرشاد ، فإن لم يجد الوعظ والتذكير فعليكم بهجرهن في الفراش مع الإعراض والصد ، فلا تكلموهن ولا تقربوهن ، فإذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبّرح ، ضرباً رفيقاً يؤلم ولا يؤذي ، فإن أطعنكم فلا تلتمسوا طريقاً لإيذائهن ، فإن الله تعالى العلي الكبير أعلى منكم وأكبر ، وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهم وبغى عليهن . ثمّ بيّن تعالى حالةً أخرى ، وهي ما إذا كان النفور لا من الزوجة فحسب بل من الزوجين ، فأمر بإرسال ( حكمين ) عدلين ، واحد من أقربائها والثاني من أقرباء الزوج ، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة ، إن رأيا التوفيق وفّقا ، وإن رأيا التفريق فرّقا ، فإذا كانت النوايا صحيحة ، والقلوب ناصحة بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بطيب نفسهما وحسن سعيهما الوفاق والألفة بين الزوجين ، وما شرعه الله إنما جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير . ثم ختم تعالى هذه الآيات بوجوب عبادته تعالى وعدم الإشراك به ، وبالإحسان إلى الوالدين ، وإلى الأقرباء واليتامى والمساكين ، ومن له حق الجوار من الأقارب والأباعد . سبب النزول نزلت الآية الكريمة في ( سعد بن الربيع ) مع امرأته ( حبيبة بنت زيد ) وكان سعد من النقباء وهما من الأنصار ، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لتقتصّ من زوجها " فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أردنا أمراً ، وأراد الله أمراً ، والذي أراد الله خير " ورفع القصاص . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : علّل تعالى قوامة الرجال على النساء بتعليلين : أحدهما : وهبي ، والآخر كسبي ، وأورد العبارة بصيغة المبالغة { قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } ، للإشارة إلى كامل الرئاسة والولاية عليهن كما يقوم الولاة على الرعايا ، فلهم حق الأمر ، والنهي ، والتدبير والتأديب ، وعليهم كامل المسؤولية في الحفظ والرعاية والصيانة ، وهذا هو السر في مجيء الجملة اسمية . اللطيفة الثانية : قال صاحب " الكشاف " : ذكروا في فضل الرجال أموراً منها : العقل ، والحزم ، والعزم ، والقوة ، وأن منهم الأنبياء ، وفيهم الإمامة الكبرى ، والصغرى ، والجهاد ، والأذان ، والخطبة ، والشهادة في الحدود ، والقصاص ، والزيادة في الميراث ، والولاية في النكاح ، وإليهم الانتساب ، وغير ذلك . اللطيفة الثالثة : ورد النظم الكريم { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } ولو قال " بما فضلهم عليهن " أو قال " بتفضيلهم عليهن " لكان أوجز وأخصر ، ولكنّ التعبير ورد بهذه الصيغة لحكمة جليلة ، وهي إفادة أن المرأة من الرجل ، والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان ، فالرجل بمنزلة الرأس ، والمرأة بمنزلة البدن ، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو لأن كل واحد يؤدي وظيفته في الحياة ، فالأذن لا تغني عن العين ، واليد لا تغني عن القدم ، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته ، ورأسه أشرف من يده ، فالكل يؤدي دوره بانتظام ، ولا غنى لواحدٍ عن الآخر . ثم للتعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس ، لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء ، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم ، والدين ، والعمل ، وكما يقول الشاعر : @ ولو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال @@ وبهذين المعنيين اللذين ذكرناهما ظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإعجاز . اللطيفة الرابعة : لم يذكر الله تعالى في الآية إلاّ ( الإصلاح ) ولم يذكر ما يقابله وهو ( التفريق ) بين الزوجين ، وفي ذلك لطيفة دقيقة ، وإرشاد من الله تعالى للحكمين إلى أنه ينبغي أن لا يدَّخراً وسعاً في الإصلاح ، فإن في التفريق خراب البيوت ، وفي التوفيق الألفة والمودة والرحمة ، وغرضُ الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام . اللطيفة الخامسة : قال الزمخشري : " وإنما كان الحكمان من أهلهما ، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للصلاح ، وإليهم تسكن نفوس الزوجين ، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض ، وإرادة الصحبة والفرقة ، وموجبات ذلك ومقتضياته ، وما يزويانه عن الأجانب ، ولا يحبان أن يطلعوا عليه " . اللطيفة السادسة : ذكر الشعبي أن شريحاً تزوج امرأة من بني تميم يقال لها ( زينب ) فلما تزوجها ندم حتى أراد أن يرسل إليها بطلاقها ، ثم قال : لا أعجل حتى يجاء بها ، فلما جيء بها تشهّدت ثم قالت : أما بعد فقد نزلنا منزلاً لا ندري متى نظعن منه ، فانظر الذي تكره ، هل تكره زيارة الأخْتان ؟ فقلت : إني شيخ كبير لا أكره المرافقة ، وإني لأكره ملال الأخْتان ، قال : فما شرطتُ شيئاً إلاّ وفت به ، فأقامت سنة ثم جئت يوماً ومعها في الحَجَلة إنس ، فقلت : إنّا لله ، فقالت : أبا أمية إنها أمي ، فسلّم عليها فقالت : انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها ، قال : فصحبتني ثم هلكت قبلي ، قال : فوددت أني قاسمتها عمري ، أو مت أنا وهي في يوم واحد ، وأنشد شريح : @ رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلّت يميني حين أضرب زينباً @@ الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما هي الخطوات التي أرشد إليها الإسلام لمعالجة نشوز المرأة ؟ أرشدت الآية الكريمة إلى الطريقة الحكيمة في معالجة نشوز المرأة ودعت إلى الخطوات التالية : أولاً : النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى : { فَعِظُوهُنَّ } . ثانياً : الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى : { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } . ثالثاً : الضرب غير المبرح بسواك ونحوه تأديباً لها ، لقوله تعالى : { وَٱضْرِبُوهُنَّ } . رابعاً : إذا لم تُجْد كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى : { فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } . وأما الضرب فقد وضّحه عليه السلام بقوله : " فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبّرح " . قال ابن عباس وعطاء : الضرب غير المبّرح بالسواك ، وقال قتادة : ضرباً غير شائن . وقال العلماء : ينبغي أن لا يوالي الضرب في محل واحد وأن يتقي الوجه فإنه يجمع المحاسن ، ولا يضربها بسوط ولا عصا ، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه . وقد سئل عليه السلام : " ما حق امرأة أحدنا عليه ؟ فقال : " أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبّح ، ولا تهجر إلا في البيت " " . ومع أن الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أن تركه أفضل لقوله عليه السلام : " ولن يضرب خياركم " . الحكم الثاني : هل هذه العقوبات مشروعة على الترتيب ؟ اختلف العلماء في العقوبات الواردة في الآية الكريمة هل هي مشروعة على الترتيب أم لا ؟ فقال جماعة من أهل العلم إنها على الترتيب ، فالوعظ عند خوف النشوز ، والهجر عند ظهور النشوز ، ثم الضرب ، ولا يباح الضرب عند ابتداء النشوز ، وهذا مذهب أحمد ، وقال الشافعي : يجوز ضربها في ابتداء النشوز . ومنشأ الخلاف بين العلماء اختلافهم في فهم الآية ، فمن رأى الترتيب قال إن ( الواو ) لا تقتضي الترتيب بل هي لمطلق الجمع ، فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أياً كانت ، وله أن يجمع بينها . ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ يدل على الترتيب ، والآية وردت على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي ثم إلى الأقوى فإنه تعالى ابتدأ بالوعظ ، ثم ترقى منه إلى الهجران ، ثم ترقى منه إلى الضرب ، وذلك جار مجرى التصريح بوجوب الترتيب ، فإذا حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به ، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد . أقول : لعل هذا هو الأرجح لظاهر الآية الكريمة والله أعلم . قال ابن العربي : ( من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول ( سعيد بن جبير ) فقد قال : " يعظها فإن هي قبلت وإلاّ هجرها ، فإن هي قبلت وإلاّ ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع ) . وروي عن علي كرم الله وجهه ما يؤيد ذلك فإنه قال : " يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها ، فإن أبت هجر مضجعها ، فإن أبت ضربها ، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين " . الحكم الثالث : هل يجوز في الحكمين أن يكونا من غير الأقارب ؟ ظاهر الآية أنه يشترط في الحكمين أن يكونا من الأقارب لقوله تعالى : { حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } وأن ذلك على سبيل الوجوب ، ولكن العلماء حملوه على وجه الاستحباب ، وقالوا : إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز ، لأن فائدة الحكمين التعرف على أحوال الزوجين وإجراء الصلح بينهما ، والشهادة على الظالم منهما ، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب ، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين ، طلباً للإصلاح من الأجانب ، وأبعد عن التهمة بالميل لأحد الزوجين ، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة . قال الألوسي : " وخُصّ الأهل لأنهم أطلب للصلاح ، وأعرف بباطن الحال ، وهذا على وجه الاستحباب ، وإن نصّبا من الأجانب جاز " . الحكم الرابع : من المخاطب في الآية الكريمة { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } ؟ الخطاب في الآية السابقة للأزواج لقوله تعالى : { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } وهذا من حق الزوج ، والخطاب هنا للحكام ، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة ، وأن للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها ، بيّن تعالى أنه إذا لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وهو السلطان الذي بيده سلطة الحكم والتنفيذ . وروي عن السُدّي أن الخطاب للزوجين . وهذا القول مرجوح . وظاهر الأمر في قوله تعالى : { فَٱبْعَثُواْ } أنه للوجوب وبه قال الشافعي رحمه الله ، لأنه من باب رفع الظُّلامات وهو من الفروض العامة الواجبة على الولاة . الحكم الخامس : هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما ؟ اختلف الفقهاء في الحكمين هل لهما الجمع والتفريق بدون إذن الزوجين أم ليس لهما تنفيذ أمر بدون إذنهما ؟ فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأنهما وكيلان عنهما ، ولا بدّ من رضى الزوجين فيما يحكمان به ، وهو مروي عن ( الحسن البصري ) و ( قتادة ) و ( زيد بن أسلم ) . وذهب مالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة ، فإن رأيا التطليق طلّقا ، وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعلا ، فهما حاكمان موليان من قبل الإمام وينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن ( علي ) و ( ابن عباس ) و ( الشعبي ) . وللشافعي في المسألة قولان . وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر ، بل فيها ما يشهد لكلٍ من الرأيين . فالحجة للرأي الأول : أن الله تعالى لم يضف إلى الحكمين إلا الإصلاح { إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً } وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما ، ولأنهما وكيلان ولا ينفذ حكمهما إلا برضى الموكل . والحجة للرأي الثاني : أن الله تعالى سمّى كلاً منهما حكماً { فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } والحكم هو الحاكم ، ومن شأن الحاكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه رضي أم سخط . قال الجصاص : " قال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلاّ أن يرضى الزوج ، وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ، ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين ، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ، ولا على ردّ مهرها ، فكذلك بعد بعث الحكمين لا يجوز إلا برضى الزوجين " وهو اختيار الطبري . قال الطبري : " وليس للحكمين ولا لواحد منهما الحكم بالفرقة بينهما ، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك " . أقول : ولعلّ الرأي الأول هو الأرجح لقوة الدليل وهذا ما اختاره الطبري رحمه الله والله أعلم . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - للزوج حق تأديب زوجته ومنعها من الخروج من المنزل إلا بإذنه . 2 - على الزوجة طاعة زوجها في حدود ما أمر الله لا في المعصية . 3 - ضرورة التحكيم إذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح من قبل الزوج . 4 - على الحكمين أن يبذلا أقصى ما في وسعهما للإصلاح بين الزوجين . خاتمة البحث حكمة التشريع قضت السنة الكونية وظروف الحياة الاجتماعية ، أن يكون في الأسرة قيّم ، يدير شؤونها ، ويتعهد أحوالها ، وينفق من ماله عليها ، لتؤدي رسالتها على أكمل الوجوه ، ولتكون نواة للمجتمع الإنساني الذي ينشده الإسلام ، إذ في صلاح الأسرة صلاح المجتمع ، وفي فساد الأسرة وخرابها خراب المجتمع . ولما كان الرجل أقدر على تحمل هذه المسؤولية من المرأة ، بما وهبه الله من العقل ، وقوة العزيمة والإرادة ، وبما كلّفه من السعي والإنفاق على المرأة والأولاد ، كان هو الأحق بهذه القوامة ، التي هي في الحقيقة درجة ( مسؤولية وتكليف ) لا درجة ( تفضيل وتشريف ) إذ هي مساهمة في تحمل الأعباء ، وليست للسيطرة والاستعلاء ، إذ لا بدّ لكل أمر هام من رئيس يتولى شؤون التدبير والقيادة . وقد جعل الله للرجال حق القيام على النساء بالتأديب والتدبير ، والحفظ والصيانة ، ولعل أخبث ما يتخذه أعداء الإسلام ذريعة للطعن في دين الله ، زعمهم أن الإسلام أهان المرأة حين سمح للرجل أن يضربها ويقولون : كيف يسمح الله بضرب النساء ، وكيف يحوي كتابه المقدس هذا النص { فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ } ؟ ! أفليس هذا اعتداء على كرامة المرأة ! ! والجواب : نعم لقد سمح القرآن بضرب المرأة ولكن متى يكون الضرب ؟ ولمن يكون ؟ إن هذا الأمر علاج ، والعلاج إنما يحتاج إليه عند الضرورة ، فالمرأة إذا أساءت عشرة زوجها ، وركبت رأسها ، وسارت وراء الشيطان وبقيادته ، لا تكف ولا ترعوي عن غيّها وضلالها ، فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحالة ؟ أيهجرها ، أم يطلقها ، أم يتركها تصنع ما تشاء ؟ لقد أرشد القرآن الكريم إلى الدواء ، أرشد إلى اتخاذ الطرق الحكيمة في معالجة هذا النشوز والعصيان ، فأمر بالصبر والأناة ، ثم بالوعظ والإرشاد ، ثمّ بالهجر في المضاجع ، فإذا لم تنفع كل هذه الوسائل فلا بدّ أن نستعمل آخر الأدوية ، وكما يقولون في الأمثال : ( آخر الدواء الكيّ ) . فالضرب بسواك وما أشبهه أقل ضرراً من إيقاع الطلاق عليها ، لأن الطلاق هدم لكيان الأسرة ، وتمزيق لشملها ، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم ، كان ارتكاب الأخف حسناً وجميلاً ، وكما قيل : ( وعند ذكر العمى يستحسن العور ) . فالضرب ليس إهانة للمرأة - كما يظنون - وإنما هو طريق من طرق العلاج ، ينفع في بعض الحالات مع بعض النفوس الشاذة المتمردة ، التي لا تفهم الحسنى ، ولا ينفع معها الجميل . @ العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة @@ وإن من النساء ، بل من الرجال من لا يقيمه إلا التأديب ، ومن أجل ذلك وضعت العقوبات وفتحت السجون . يقول السيد رشيد رضا في تفسيره " المنار " : " وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح ، والتبريح الإيذاء الشديد ، وقد روى عن ابن عباس تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه أي كالضرب باليد ، أو بقصبة صغيرة ونحوها . ثم قال : يستكبر بعض مقلدة الافرنج في آدابهم منا مشروعية ضرب المرأة الناشز ، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه ، فتجعله وهو رئيس البيت مرءوساً بل محتقراً ، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه ، ولا تبالي بإعراضه وهجره ، ولا أدري بم يعالجون هؤلاء النواشز ؟ وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به ؟ إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى التأويل ، فهو أمر يحتاج إليه في حال ( فساد البيئة ) وغلبة الأخلاق الفاسدة ، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه ، وإذا صلحت البيئة ، وصار النساء يعقلن النصيحة ، ويستجبن للوعظ ، أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب ، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع ، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء " . أقول : إن أمر الضرب في شريعة الله ليس إلا طريقاً من طرق الإصلاح ، وقد روي عن عطاء أنه قال : لا يضربْ زوجه وإن أمرها أو نهاها فلم تطعه ، ولكنْ يغضب عليها ، وقال عليه السلام " ولن يضرب خياركم " ومع ذلك فهو علاج في بعض الحالات الشاذَّة { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .