Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 92-94)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 6 ] جريمة القتل وجزاؤها في الإسلام التحليل اللفظي { فَتَحْرِيرُ } : التحرير من الحرية ، وهو كما قال الراغب : جعل الإنسان حراً ، وإخراج العبد من الرق إلى الحرية يسمى تحريراً ، والحر في الأصل : الخالص ، وسمي الإنسان حراً لأنه تخلّص مما يكدّر إنسانيته ، ومنه قوله تعالى : { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } [ آل عمران : 35 ] أي مخلصاً للعبادة . الدية : ما تعطى عوضاً عن دم القتيل إلى وليه ، قال في " اللسان " : الدية حق القتيل ، والهاء عوض عن الواو ، تقول : وديتُ القتيل أدية دية إذا أعطيت ديته . وفي " التهذيب " : ودى فلان فلاناً إذا أدّى ديته إلى وليه ، وأصل الدية ودية فحذفت الواو ، كما قالوا : شية من الوشي . وقد خصص الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس ، دون ما يؤدي في المتلفات وبدل الأطراف . { مُّسَلَّمَةٌ } : أي مدفوعة ومؤداة إلى أهل القتيل . { يَصَّدَّقُواْ } : أي يتصدقوا عليهم بالدية فأدغمت التاء في الصاد ، والمعنى إلا أن يعفوا ويسقطوا حقهم في الدية ، وسمي صدقة لأنه معروف وقد قال صلى الله عليه وسلم : " كل معروف صدقة " . { مِّيثَاقٌ } : أي عهد وذمة ، قال الراغب : الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد . { ضَرَبْتُمْ } : الضرب له معان : منها الضرب باليد ، والعصا ، والسيف ، ومنها الضرب في الأرض بمعنى السفر ، وسمي به لأن المسافر يضرب دابته بالعصا لتسير به ، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره . ومعنى الآية : إذا سافرتم في سبيل الله لجهاد أعدائكم . { فَتَبَيَّنُواْ } : التبين طلب بيان الأمر ، والمراد التأني واجتناب العجلة ، ومنه البينة أي تثبتوا وتحققوا قال تعالى : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } [ الحجرات : 6 ] . { ٱلسَّلاَمَ } : السّلام والسّلْم بمعنى واحد وهو إلقاء السلاح والاستسلام ، ومعنى الآية : لا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا . { عَرَضَ } : سمي متاع الحياة الدنيا عَرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت ، وكل شيء يقل لبثه يسمى عرضاً وفي الحديث : " الدنيا عَرضٌ حاضر ، يأكل منها البر والفاجر " . وفي " اللسان " : العَرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها وفي التنزيل { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [ الأعراف : 169 ] وعرض الدنيا ما كان من مال قلّ أو كثر . { مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } : المغانم جمع مغنم وهو ما يغنمه الإنسان من عدوه ، والمراد به هنا الفضل الواسع والرزق الجزيل قال الطبري : المعنى : " لا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا ، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه " . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه : " ما كان من شأن المؤمن ولا ينبغي له أن يقدم على قتل مؤمنٍ ، إلا إذا وقع هذا القتل خطأ ، فإذا حصل ووقع القتل بطريق الخطأ ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة ، ودية مسلّمة إلى أهل القتيل تدفعها عاقلته ، إلاّ إذا عفوا عنه وأسقطوا الدية باختيارهم فلا تجب حينئذٍ ، وإذا كان المقتول مؤمناً وأهله من أعدائهم فالواجب على قاتله عتق رقبة مؤمنة ، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون ، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم وأما إذا كان المقتول معاهداً أو ذمياً ، فالواجب في قتله كالواجب في قتل المؤمن ، دية مسلّمة إلى أهله تكون عوضاً عن حقهم ، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى ، فمن لم يجد الرقبة التي يحررها فعليه صوم شهرين قمريين متتابعين ، توبة من الله على عباده المذنبين وكان الله عليماً بما يصلح الناس حكيماً في تشريعه . ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن عمداً ، وغلّظ في العقوبة لأن جرمه عظيم ، ولم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعّد به الكافرين ، وهو الخلود في جهنم ، واستحقاق غضب الله ولعنته ، عدا العذاب الشديد الذي أعده الله له يوم القيامة . وقد ختم الله هذه الآيات الكريمة بأمر المؤمنين إذا خرجوا مجاهدين في سبيل الله أن يتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره ، فلم يعلموا هل هو مسلم أم كافر ؟ فلا يقدموا على قتله إلا بعد التحقق من كفره ، وأمّا إذا استسلم وأظهر الإسلام فلا يحل قتله ، طمعاً في متاع الدنيا الزائل ، وقد ذكّرهم بأنهم كانوا مشركين كفاراً فمنّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام ، وكفى بها نعمة ! ! سبب النزول 1 - روي أن ( عيّاش بن أبي ربيعة ) - وكان أخاً لأبي جهل من أمه - أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة ، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع ، فخرج أبو جهل ومعه ( الحارث بن يزيد ) فأتياه ، فقال أبو جهل : أليس محمد يأمرك بصلة الرحم ؟ انصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك ، فرجع فلما دنوا من مكة قيّدوا يديه ورجليه ، وجلده أبو جهل مائة جلدة ، وجلده الحارث مائة أخرى ، فقال للحارث : هذا أخي فمن أنت ؟ لله عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك ، فلما دخل على أمه حلفت ألا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ، ففعل ثم هاجر بعد ذلك . وأسلم الحارث بن يزيد وهو لا يعلم بإسلامه ، فلقيه عياش خالياً فقتله ، فلما أُخبر أنه كان مسلماً ندم على فعله ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت هذه الآية { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } . ب - وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " مرّ رجل من بني سليم ينفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّم علينا إلاّ ليتعوذ منا ، فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ . … } . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } ، وقرأ حمزة والكسائي ( فتثبتوا ) بالثاء . 2 - قرأ الجمهور { لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ } بفتح السين مع الألف ، وقرأ نافع وحمزة ( السّلم ) من غير ألف . 3 - قرأ الجمهور { لَسْتَ مُؤْمِناً } بكسر الميم الثانية وقرأ عكرمة ( لست مُؤمناً ) بفتح الميم من الأمَان . وجوه الإعراب أولاً : قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً … } أن يقتل في محل رفع اسم كان ، ولمؤمن خبره وقوله ( إلاّ خطأً ) استثناء منقطع والمعنى : لكن إن قتل خطأً فحكمه كذا ، ومثّل له الطبري بقول الشاعر : @ من البيضِ لم تَظْعنْ بعيداً ولم تَطَأْ على الأرض إلاّ ريط بُرْد مُرحّل @@ ثانياً قوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } خطأً صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره قتلاً خطأً ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره : قتله خاطئاً . ثالثاً : قوله تعالى : { تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ } توبة مفعول لأجله أي شرع لكم ذلك توبة منه . رابعاً : قوله تعالى : { لَسْتَ مُؤْمِناً } مؤمناً خبر ليس والجملة مقول القول ، وجملة ( تبتغون عرض الحياة ) في محل نصب على الحال من فاعل تقولوا أي لا تقولوا ذلك مبتغين عرض الحياة . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : النفي في مثل هذا الموطن يسمى ( نفي الشأن ) وهو أبلغ من نفي الفعل كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 53 ] وقوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } [ التوبة : 17 ] فهو استبعاد للفعل بطريق البرهان كأنه يقول : ليس من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن أن يقتل أحداً من أهل الإيمان ، إذ لا يتصور أن يصدر منه مثل هذا الفعل لأن إيمانه - وهو الحاكم على تصرفه وإرادته - يمنعه من اجتراح القتل عمداً ، ولكنه قد يقع منه ذلك خطأً . اللطيفة الثانية : في قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مجاز مرسل علاقته ( الجزئية ) أطلق الرقبة وقصد به المملوك من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] وهو مجاز مشهور . اللطيفة الثالثة : التعبير بهذا الأسلوب اللطيف { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } وتسمية العفو بالصدقة ، فيه حثٌ على فضيلة العفو ، وتنبيه الأولياء إلى أنّ عفوهم عن القاتل ، وعدم أخذ الدية هو في نفسه صدقة وهو من مكارم الأخلاق التي يرغب فيها الإسلام . اللطيفة الرابعة : وردت عقوبة قتل المؤمن عمداً في غاية التغليظ والتشديد { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } فقد حكمت الآية على القاتل بعقوبات ثلاث : 1 - الخلود في جهنم 2 - واستحقاق الغضب واللعنة 3 - والعذاب الشديد الذي أعده الله له في الآخرة ، ولهذا جاء في الحديث الشريف : " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن " وفي الحديث أيضاً : " من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله " ولهذا أفتى ابن عباس بعدم قبول توبة القاتل . قال صاحب " الكشاف " : " والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة ، وقول ابن عباس يمنع التوبة ، ثم يطمعون في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبةٍ { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] " ؟ اللطيفة الخامسة : الخلود في جهنم لقاتل المؤمن محمول على من استحلّ قتله ، أو المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود بمعنى طول المدة والبقاء قال زهير : @ ألا لا أرى على الحوادث باقياً ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا @@ والعرب تقول : خلّد الله ملكه ، وتقول : لأخلدّن فلاناً في السجن ، مع أنه لا شيء في الدنيا يدوم . الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما هي أنواع القتل ، وفي أيها تجب الكفارة ؟ أوجب الله تعالى ( القصاص ) في القتل في آية البقرة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] وأوجب ( الدية والكفارة ) في القتل الخطأ في الآية التي معنا ، فيعلم أنّ الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد لا الخطأ . ذهب مالك رحمه الله إلى أن القتل إمّا عمد ، وإمّا خطأ ، ولا ثالث لهما ، لأنه إما أن يقصد القتل فيكون عمداً ، أو لا يقصده فيكون خطأ ، وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ . وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن القتل على ثلاثة أقسام ( عمد ، وخطأ ، وشبه عمد ) . أما العمد : فهو أن يقصد قتله بما يفضي إلى الموت كسيفٍ ، أو سكين ، أو سلاح ، فهذا عمد يجب فيه القود ( القصاص ) لأنه تعمد قتله بشيء يقتل في الغالب . وأما الخطأ : فهو ضربان : أحدهما : أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فيصيب مسلماً . والثاني : أن يظنه مشركاً بأن كان عليه شعار الكفار فيقتله ، والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد . وأما شبه العمد : فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالباً فيموت فيه ، أو يلطمه بيده ، أو يضربه بحجر صغير فيموت ، فهذا خطأ في القتل وإن كان عمداً في الضرب . قال القرطبي : " وممن أثبت شبه العمد الشعبي ، والثوري ، وأهل العراق ، والشافعي ، وروينا ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو الصحيح ، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها ، فلا تستباح إلاّ بأمر بيّن لا إشكال فيه ، وهذا فيه إشكال لأنه لما كان متردداً بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ، فالضرب مقصود ، والقتل غير مقصود ، فيسقط القَود وتغلّظ الدية ، وبمثل هذا جاءت السنة ، روى أبو داود من حديث ( عبد الله بن عمرو ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها " . حجة الجمهور : وحجة الجمهور في إثبات ( شبه العمد ) أن النيات مغيبة عنا لا اطلاع لنا عليها ، وإنما الحكم بما ظهر ، فمن ضرب آخر بآلة تقتل غالباً حكمنا بأنه عامد ، لأن الغالب أن من يضرب بآلة تقتل يكون قصده القتل ، ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالباً كان متردّداً بين العمد والخطأ ، فأطلقنا عليه شبه العمد ، وهذا بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر ، إذ هو في الواقع إمّا عمد ، وإمّا خطأ ، وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب ، وأشبه الخطأ من جهة أن الآلة لا تقتل غالباً ، ولما لم يكن عمداً محضاً سقط القود ، ولما لم يكن خطأ محضاً لأن الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية مغلّظة . واستدلوا بالحديث السابق وبما رواه أحمد ، وأبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال : " ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلّظة … " الحديث . الحكم الثاني : ما هو القتل العمد ، وما هي عقوبته ؟ القتل العمد يوجب القصاص ، والحرمان من الميراث ، والإثم وهذا باتفاق الفقهاء ، أما الكفارة فقد أوجبها الشافعي ومالك ، وقال أبو حنيفة لا كفارة عليه وهو مذهب الثوري . قال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى . وقال أبو حنيفة : لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى ، وحيث لم تذكر في العمد فلا كفارة . قال ابن المنذر : " وما قاله أبو حنيفة به نقول ، لأن الكفارات عبادات وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضاً يلزمه عباد الله إلا بكتابٍ ، أو سنة ، أو إجماع ، وليس مع من فرض على القاتل عمداً كفارةً حجةٌ من حيث ذكرت " . وقد اختلفوا في معنى العمد وشبه العمد على أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة : 1 - العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه مثل الذبح ، أو بكل شيء محدّد أو بالنار وما سوى ذلك من القتل بالعصا أو بحجر صغيراً كان أو كبيراً فهو شبه العمد ، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله . 2 - العمد كل قتلٍ من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، بما يقتل مثله في العادة ، وشبه العمد ما لا يقتل مثله ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله . 3 - العمد ما كان عمداً في الضرب ، والقتل ، وشبه العمد ما كان عمداً في الضرب ، خطأ في القتل أي ما كان ضرباً لم يقصد به القتل وهذا قول الشافعي رحمه الله . الترجيح : ما ذهب إليه ( أبو حنيفة ) رحمه الله من جعل كل قتلٍ بغير الحديد شبه عمد ضعيفٌ ، فإن من ضرب رأس إنسان بمثل ( حجر الرحى ) فقتله وادّعى أنه ليس عامداً كان مكابراً ، والمصلحة تقضي بالقصاص في مثله ، لأن الله شرع القصاص صوناً للأرواح عن الإهدار ، وما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد الشافعي هو الأصح والله أعلم . الحكم الثالث : ما هي شروط الرقبة وعلى مَن تجب ؟ أوجب الله في القتل الخطأ أمرين : 1 - عتق رقبة مؤمنة . ب - ودية مسلّمة إلى أهله . فأما الرقبة المؤمنة فقد قال ابن عباس والحسن : لا تجزئ الرقبة إلاّ إذا صامت وصلّت . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : يجزئ الغلام والصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً . ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان إحداهما تجزئ ، والأخرى لا تجزئ إلا إذا صامت وصلت . حجة الأولين : أن الله تعالى شرط الإيمان ، فلا بدّ من تحققه ، والصبي لم يتحقق منه ذلك . وحجة الجمهور : أن الله تعالى قال : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً } فيدخل فيه الصبي ، فكذلك يدخل في قوله { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } . قال ابن كثير : " والجمهور أنه متى كان مسلماً صح عتقه عن الكفارة سواءً كان صغيراً أو كبيراً " . وقد اتفق الفقهاء على أن الرقبة على القاتل ، وأما الدية فهي على العاقلة . الحكم الرابع : على مَن تجب الدية في القتل الخطأ ؟ اتفق الفقهاء على أن الدية على عاقلة القاتل ، تحملها عنه على طريق المواساة ، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين ، كل سنة ثلثها ، والعاقلة هم عصبته ( قرابته من جهة أبيه ) . قال في " المغني " : " ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن دية الخطأ على العاقلة " . وقال ابن كثير : " وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله قال الشافعي : لم أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في " الصحيحين " عن أبي هريرة قال : " اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها ( غرة ) عبدٌ أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها " . تنبيه : فإن قيل : كيف يجني الجاني وتؤخذ عاقلته بجريرته والله تعالى يقول : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] ويقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الأنعام : 164 ] . فالجواب : أن هذا ليس من باب تحميل الرجل وزر غيره ، لأن الدية على القاتل ، وتحميل ( العاقلة ) إيّاها من باب المعاونة والمواساة له ، وقد كان هذا معروفاً عند العرب وكانوا يعدونه من مكارم الأخلاق ، والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليتمم مكارم الأخلاق ، والمعاونة والمواساة والتناصر وتحمل المغارم ، كل هذا ممّا يقوّي الألفة ويزيد في المحبة فلذلك أقره الإسلام . الحكم الخامس : كم هو مقدار الدية في العمد والخطأ ؟ اتفق العلماء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة ، وهي مائة من الإبل تؤخذ نجوماً على ثلاث سنين وتجب أخماساً لما رواه ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكوراً ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة ، وعشرين حقة " . وأما دية شبه العمد فهي مثلّثة ( أربعون خلفة ، وثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ) وتجب على العاقلة أيضاً ، وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أبي حنيفة ومالك على المشهور في قوله ، وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد ، وتجب على مال القاتل . قال القرطبي : " أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد ، وأنها في مال الجاني " . وقال ابن الجوزي : " والدية للنفس ستة أبدال : من الذهب ألف دينار ، ومن الورق ( الفضة ) اثنا عشر ألف درهم ، ومن الإبل مائة ، ومن البقر مائتا بقرة ، ومن الغنم ألفا شاة ، وفي الحلل مائتا حلة ، فهذه دية الذكر الحر المسلم ، ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك " . وهذا قول جمهور الفقهاء ووافقهم أبو حنيفة في ذلك إلا أنه قال في الفضة عشر آلاف درهم لا تزيد . الحكم السادس : هل للقاتل عمداً توبة ؟ ذهب بعض العلماء إلى أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما . روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : " اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقالت : نزلت هذه الآية { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء " . وروى النسائي عنه قال : " سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة ؟ قال : لا ، وقرأت عليه الآية التي في [ الفرقان : 68 ] { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ } قال : هذه آية مكية نسختها آية مدنية { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } . وروى ابن جرير بسنده عن ( سالم بن أبي الجعد ) قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كُفّ بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً ؟ فقال جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذاباً عظيماً . قال : أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى ؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " يجيء يوم القيامة معلّقاً رأسُه بإحدى يديه - إما بيمينه أو بشماله - آخذاً صاحبه بيده الأخرى ، تشخب أوداجه حيال عرش الرحمٰن يقول : يا رب سل عبدك هذا علام قتلني ؟ فما جاء نبيٌ بعد نبيكم ، ولا نزل كتاب بعد كتابكم " . وذهب الجمهور إلى أن توبة القاتل عمداً مقبولة ، واستدلوا على ذلك ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي : أولاً : إن الكفر أعظم من القتل العمد ، فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة عن القتل أولى بالقبول . ثانياً : قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] يدخل فيه القتل وغيره . ثالثاً : قوله تعالى : { وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ … } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله { إِلاَّ مَن تَابَ } [ الفرقان : 70 ] وهي نصٌ في الباب . رابعاً : حديث " الصحيحين " " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق … ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه " . خامساً : حديث مسلم في الشخص الذي قتل مائة نفس … إلخ . قال العلامة الشوكاني : " والحقّ أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة ، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً ؟ والله أحكم الحاكمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون " . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - سفك دم المؤمن من الكبائر التي توجب الخلود في النار . 2 - القتل الخطأ فيه الكفارة والدية وليس فيه القصاص . 3 - إذا عفا أهل القتيل سقطت الدية عن القاتل دون الكفارة . 4 - الكفارة عتق رقبة مؤمنة فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين . 5 - لا يجوز التعجل بقتل إنسان لمجرد الشبهة .