Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 33-40)

Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ 3 ] حد السرقة وقطع الطريق التحليل اللفظي { يُحَارِبُونَ } : المحاربة من الحرب ضد السلم ، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال ، والمراد بها في الآية محاربة أولياء الله وأولياء رسوله . { فَسَاداً } : الفساد ضد الصلاح ، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحاً نافعاً يقال إنه فسد ، والمراد بالإفساد في الأرض إخافة السبيل ، والقتل والجراح وسلب الأموال . { يُقَتَّلُوۤاْ } : التقتيل : المبالغة في القتل بحيث يكون حتماً لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم . { يُصَلَّبُوۤاْ } : التصليب : المبالغة في الصلب ، أو تكرار الصلب كما قال الشافعي ، ومعنى الصلب أن يُربط على خشبة منتصب القامة ، ممدود اليدين ، وربما طعنوه ليعجلوا قتله . { مِّنْ خِلافٍ } : معنى تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى وتقطع الرجل اليسرى وبالعكس . { يُنفَوْاْ } : النفي أصله الإهلاك ، ومنه النّفاية لرديء المتاع ، والنفي من الأرض هو النفي من بلد إلى بلد ، لا يزال يطلب وهو هارب فزعاً ، وقيل : المراد بالنفي الحبسُ . { خِزْيٌ } : الخزي الذي والفضيحة يقال أخزاه الله أي فضحه وأذلّه . { ٱلْوَسِيلَةَ } : كل ما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي . { نَكَالاً } : أي عقوبة قال في " المصباح " : نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة أصابه بنازلة ، ونكّل به بالتشديد مبالغة ، والاسم النَّكال . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا جزاء للمفسدين في الأرض إلاّ القتل ، والصلب ، وقطع اليد والرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض عقوبة لهم وخزياً ، ذلك العذاب المذكور هو المعجّل لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هو عذاب النار ، إلاّ الذين تابوا من قطاع الطريق من قبل أن تتمكنوا منهم فاعلموا أنه غفور رحيم يغفر الذنب ويرحم العبد . ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه سبحانه ، والتقرب إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ، والجهاد في سبيله لإعلاء دينه ليفوزا بالدرجات الرفيعة ، ويكونوا من السعداء المفلحين . ثم أخبر تعالى أن الذين كفروا بآياته ورسله لو أنّ لأحدهم ملك الدنيا بأجمعه وأضعافه معه ، ثم أراد أن يقدمه فداءً وعوضاً ليخلّص نفسه من عذاب الله ، ما تقبلّه الله منه ، لأن الله تعالى حكم بالخلود في عذاب جهنم على كل كافر ، وأن هؤلاء يتمنون أن يخرجوا من النار ، ولكن لا سبيل لهم إلى النجاة بوجه من الوجوه ، فهم في عذاب مستمر دائم . ثم ذكر تعالى عقاب كل من السارق والسارقة ، وأمر بقطع أيمانهما عند توفر الشروط ، وبيّن أن تلك العقوبة جزاء ما كسباه من السرقة ، عقوبة من الله لهما لإقدامهما على هذه الجريمة المنكرة ، وليكون هذا العقاب الصارم عبرة للناس حتى يرتدع أهل البغي والفساد ، ويأمن الناس على أموالهم وأرواحهم ، وهذا التشريع هو تشريع العزيز في سلطانه الحكيم في أمره ونهيه ، الذي لا تخفى عليه مصالح العباد ، ومن ضمن حكمته أن يعفو عمن تاب وأناب ، وأصلح عمله ، وسلك طريق الأخيار { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] . سبب النزول روي أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها ، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ، ففعلوا فصحوا ، وارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمّر أعينهم ، وألقاهم بالحرة حتى ماتوا فنزلت هذه الآية { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ … } الآية . وجه الارتباط بالآيات السابقة بعد أن ذكر تبارك وتعالى قصة ( قابيل وهابيل ) ابني آدم عليه السلام ، وأبان فظاعة جُرم القتل ، وشدّد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً ، ذكر تعالى هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض ، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم ، وأوضح عقوبة السارق أيضاً لأنها نوع من إخلال الأمن في الأرض ، وضربٌ من ضروب الإفساد ، وقد شرع الله جل وعلا الحدود لتكون زواجر للناس عن ارتكاب الجرائم ، فناسب ذكر ( حد السرقة ) و ( حد قطع الطريق ) بعد ذكر جريمة القتل . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : ذكرُ المحاربة لله عزّ وجل { يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ } مجاز ، إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحارب ولا يُغالب ، لما له من صفات الكمال ، وتنزهه عن الأضداد والأنداد ، فالكلام على ( حذف مضاف ) أي يحاربون أولياء الله ، فعبّر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكباراً لإذايتهم ، كما عبّر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] حثاً على الاستعطاف عليهم ، ومثله ما ورد في صحيح السنة " ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني " . اللطيفة الثانية : النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإبعاد ، يكون بالحبس ، فقد روي عن مالك أنه قال : النفي السجن ، ينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها ، فكأنه إذا سجن نفي من الأرض ، لأنه لا يرى أحبابه ، ولا ينتفع بشيء من لذائذ الدنيا وطيباتها . قال الإمام الفخر : ولما حبسوا ( صالح بن عبد القدوس ) في حبس ضيّق على تهمة الزندقة وطال مكثه أنشد : @ خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى إذا جاءنا السجّان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا @@ اللطيفة الثالثة : قال الزمخشري : قوله تعالى : { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } هذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقال للكافر يوم القيامة : أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك ، ألا تشرك بي شيئاً فأبيت " . اللطيفة الرابعة : قدّم السارق على السارقة هنا { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ } وأمّا في آية الزنا فقد قدم الزانية على الزاني { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ } [ النور : 2 ] والسرّ في ذلك أن الرجل على السرقة أجرأ ، والزنى من المرأة أقبح وأشنع ، فناسب كلاً منهما المقامُ . اللطيفة الخامسة : قال الأصمعي : قرأت هذه الآية وإلى جنبي أعرابي فقلت : ( والله غفور رحيم ) سهواً ، فقال الأعرابي : كلامُ مَنْ هذا ؟ قلت : كلام الله ، قال : أعد فاعدت : والله غفور رحيم ، فقال : ليس هذا كلام الله فتنبهّتُ فقلت { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال : أصبتَ ، هذا كلام الله ، فقلت : أتقرأ القرآن ؟ قال : لا ، قلت : فمن أين علمتَ أني أخطأتُ ؟ فقال : يا هذا ، عزّ ، فحكم ، فقطع ، ولو غفر ، ورحم لما قطع " أقول : هذا يدل على ذكاء الأعرابي وشدة الترابط والانسجام بين صدر الآية وآخرها . اللطيفة السادسة : قال بعض الملحدين في الاعتراض على الشريعة الغراء بقطع اليد بسرقة القليل ، ونظم ذلك شعراً : @ يدٌ بخمس مئينَ عَسْجَدٍ ودُيتْ ما بالُها قُطِعتُ في ربع دينار تحكّمٌ ما لنا إلا السكوتُ له وأنْ نَعوذَ بمولانا من النّار @@ فأجابه بعض الحكماء بقوله : @ عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانةِ فافهم حكمة الباري @@ الأحكام الشرعية الحكم الأول : من هو المحارب الذي تجري عليه أحكام قطاع الطريق ؟ دلت الآية الكريمة على حكم المحاربة والإفساد في الأرض ، وقد حكم الله تعالى على المحاربين بالقتل ، أو الصلب ، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض وقد اختلف الفقهاء فيمن يستحق اسم المحاربة . ا - فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح وأخافهم في مصرٍ أو برية . ب - وقال أبو حنيفة : المحارب الذي تجري عليه أحكام قطّاع الطريق من حمل السلاح في صحراء أو برية ، وأمّا في المصر فلا يكون قاطعاً لأن المجني عليه يلحقه الغوث . جـ - وقال الشافعي : من كابر في المصر باللصوصية كان محارباً وسواء في ذلك المنازل ، والطرق ، وديار أهل البادية ، والقرى حكمها واحد . قال ابن المنذر : الكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوماً بغير حجة ، لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة . أقول : ولعلّ هذا هو الأرجح لعموم الآية الكريمة ، وربما كانت هناك عصابة في البلد تخيف الناس في أموالهم وأرواحهم أكثر من قطّاع الطريق في الصحراء . الحكم الثاني : هل الأحكام الواردة في الآية على التخيير ؟ قال بعض العلماء الإمام مخيّر في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل ، أو الصلب ، أو القطع ، أو النفي لظاهر الآية الكريمة { أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ } وهذا قول مجاهد ، والضحاك والنخعي ، وهو مذهب المالكية . قال ابن عباس : ما كان في القرآن بلفظ ( أو ) فصاحبه بالخيار . وقال قوم من السلف : الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على الجنايات ، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نفي من الأرض ، وهذا مذهب الشافعية والصاحبين من الحنفية وهو مروي عن ابن عباس . وأبو حنيفة يحمل الآية على التخيير ، لكن لا في مطلق المحارب ، بل في محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال فالإمام مخير في أمور أربعة : أ - إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم . ب - وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم . جـ - وإن شاء صلبهم فقط دون قطع الأيدي والأرجل . د - وإن شاء قتلهم فقط حسب ما تقتضيه المصلحة . ولا بد عنده من انضمام القتل أو الصلب إلى قطع الأيدي ، لأن الجناية كانت بالقتل وأخذ المال ، والقتلُ وحده عقوبته القتل ، وأخذُ المال وحده عقوبته القطع ، ففيهما مع الإخافة والإزعاج لا يعقل أن يكون القطع وحده ، هذا مذهب الإمام أبي حنيفة . الحكم الثالث : كيف تكون عقوبة الصلب ؟ جمهور الفقهاء على أن الإمام مخيّر على ظاهر الآية ، وأنه يجوز له صلب المجرم المحارب لقوله تعالى : { أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ } وكيفية الصلب أن يصلب حيّاً على الطريق العام يوماً واحداً ، أو ثلاثة أيام لينزجر الأشقياء ، ثم يطعن برمح حتى يموت وهو مذهب المالكية والحنفية وقال قوم : لا ينبغي أن يُصلب قبل القتل ولكن بعده لئلا يحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ، فيقتل أولاً ثم يُصلّى عليه ثم يصلب ، وهو مذهب الشافعية . قال الإمام الشافعي رحمه الله : أكره أن يُقتل مصلوباً لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُثْلة . وقال الألوسي : " والصلبُ قبل القتل بأن يُصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا " . الحكم الرابع : متى تقطع يد السارق ، وما هي الشروط في حد السرقة ؟ السرقة في اللغة أخذ المال في خفاء وحيلة ، وأما في الشرع فقد عرفها الفقهاء بأنها ( أخذ العاقل البالغ مقداراً مخصوصاً من المال خفية من حرزٍ معلوم بدون حق ولا شبهة ) . والسارق إنما سمي سارقاً لأنه يأخذ الشيء في خفاء ، واسترق السمع : إذا تسمّع مستخفياً ، فقطعُ اليد لا يكون في مطلق السرقة ، بل في سرقة شخص معين ، مقداراً معيناً ، من حرز مثله ، بهذا ورد الشرع الحنيف . أما العقل والبلوغ فلأن السرقة جناية ، وهي لا تتحقق بدونهما ، والمجنون والصغير غير مكلفين ، فما يصدر منهما لا يدخل في دائرة التكليف الذي يعاقب عليه الفاعل ، وإن كانت السرقة من الصغير لا قطع فيها إلا أنها تدخل في باب التعزير . وأما المقدار الذي تقطع فيه اليد فقد اختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة والثوري : لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها . وقال مالك والشافعي : لا قطع إلا في ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم . حجة الحنفية : أ - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا قطع فيما دون عشرة دراهم " . ب - ما نقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعطاء أنهم قالوا : لا قطع إلا في عشرة دراهم . حجة المالكية والشافعية : أ - ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً " ب - ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجنّ ثمنة ثلاثة دراهم . جـ - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً " وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . قال فضيلة الشيخ السايس : " وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات ، وأن الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه ، وأن الحظر مقدّم على الإباحة ، أمكن ترجيح ( مذهب الحنفية ) لأن المجنّ المسروق في عهده عليه السلام الذي قطعت فيه يد السارق ، قدّره بعضهم بثلاثة دراهم ، وبعضهم بأربعة ، وبعضهم بخمسة ، وبعضهم بربع دينار ، وبعضهم بعشرة دراهم ، والأخذ بالأكثر أرجح ، لأن الأقل فيه شبهة عدم الجناية ، والحدود تدرأ بالشبهات ولأن التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة ، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها ، والحاظر مقدم على المبيح . وأما اعتبار الحرز فلقوله عليه السلام : " لا قطع في ثَمَر معلق ولا في حريسة جبل ، فإذا أواه المُرَاحُ أو الجرينُ فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " . والحرز هو ما نصب عادةً لحفظ أموال الناس كالدور والخيم والفسطاط ، التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم بها ، وقد يكون الحرز بالحافظ الذي يجلس ليحفظ متاعه ، فإذا كان الحافظ قطع لما روي عن ( صفوان بن أمية ) أنه قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة ( عباءة أو ما أشبهها ) لي ثمن ثلاثين درهماً ، فجاء رجلٌ فاختلسها مني ، فأخذت الرجل فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع ، فقلت : اتقطعه من أجل ثلاثين درهماً ؟ أنا أبيعه وأُنْسئه ثمنها ، قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به " ؟ وأما اعتبار عدم الشبهة فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " وقد اشتهر هذا فأصبح كالمعلوم بالضرورة ، فلا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده ، ولا الأب من مال ابنه ، ولا الشريك من شريكه ، ولا الدائن من مدينه لوجود الشبهة . الحكم الخامس : من أين تقطع يد السارق ؟ دل قوله تعالى : { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } على وجوب قطع اليد في السرقة ، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تقطع هي ( اليمنى ) لقراءة ابن مسعود ( فاقطعوا أيمانهما ) . ثم اختلفوا من أين تقطع اليد فقال فقهاء الأمصار تقطع من المفصل ( مفصل الكف ) لا من المرفق ، ولا من المنكب ، وقال الخوارج : تقطع إلى المنكب ، وقال قوم : تقطع الأصابع فقط . حجة الجمهور ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ ، وكذلك ثبت عن ( علي ) و ( عمر بن الخطاب ) أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ ، فكان هو المعول عليه . وإذا عاد إلى السرقة ثانياً قطعت رجله اليسرى باتفاق الفقهاء لما رواه ( الدارقطني ) عنه عليه السلام أنه قال : " إذا سرق السارق فاقطعوا يده ، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى " ولفعل ( علي ) و ( عمر ) من قطع يد سارق ثم قطع رجله ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فكان ذلك إجماعاً . وأما إذا عاد إلى السرقة ثالثاً فلا قطع عند الحنفية والحنابلة ، ولكنّه يضمن المسروق ويسجن حتى يتوب ، وقال المالكية والشافعية : إذا سرق تقطع يده اليسرى ، وإن عاد إلى السرقة رابعاً تقطع رجله اليمنى . ويروى أن أبا حنيفة قال : " إني استحيي من الله أن أدعه بلا يدٍ يأكل بها ، وبلا رجل يمشي عليها " وهذا القول مروي عن ( علي ) و ( عمر ) وغيرهما من الصحابة . خاتمة البحث حكمة التشريع صان الإسلام بتشريعه الخالد كرامة الإنسان ، وجعل الاعتداء على النفس أو المال أو العرض جريمة خطيرة ، تستوجب أشد أنواع العقوبات ، فالبغي في الأرض بالقتل والسلب ، والاعتداء على الآمنين بسرقة الأموال ، كل هذه جرائم ينبغي معالجتها بشدّة وصرامة ، حتى لا يعيث المجرمون في الأرض فساداً ، ولا يكون هناك ما يُخل بأمن الأفراد والمجتمعات . وقد وضع الإسلام للمحارب الباغي أنواعاً من العقوبات ( القتل ، الصلب ، تقطيع الأيدي والأرجل ، النفي من الأرض ) كما وضع للسارق عقوبة ( قطع اليد ) وهذه العقوبات تعتبر بحقٍ رادعة زاجرة ، تقتلع الشر من جذوره ، وتقضي على الجريمة في مهدها وتجعل الناس في أمنٍ ، وطمأنينة ، واستقرار . وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل ، وقطع يد السارق ، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يَحْظَوا بعطف المجتمع ، لأنهم مرضى بمرضٍ نفساني ، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر يسعى لحياة سعيدة كريمة إنهم يرحمون المجرم من المجتمع ، ولا يرحمون المجتمع من المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم ، وأقلق مضاجعهم ، وجعلهم مهدّدين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح . وقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند على عقل ولا منطق سليم ، أن أصبح في كثير من البلاد ( عصابات ) للقتل وسفك الدماء وسلب الأموال ، وزادت الجرائم ، واختل الأمن ، وفسد المجتمع ، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطّاع الطريق . والعجيب أن هؤلاء الغربيين الذين يرون في الحدود الإسلامية شدة وقسوة لا تليق بعصرنا المتحضّر ، والذين يدعون إلى إلغاء عقوبة ( القتل والزنى وقطع يد السارق ) إلخ هم أنفسهم يفعلون ما تشيب له الرؤوس ، وتنخلع لهوله الأفئدة ، فالحروب الهمجية التي يثيرونها ، والأعمال الوحشية التي يقومون بها من قتل الأبرياء ، والاعتداء على الأطفال والنساء ، وتهديم المنازل على من فيها ، لا تعتبر في نظرهم وحشية ، ولقد أحسن الشاعر حين صور منطق هؤلاء الغربيين بقوله : @ قتلُ امرىءٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر وقتلُ شعبٍ آمنٍ مسألة فيها نظر @@ نعم إن الإسلام شرع عقوبة قطع يد السارق ، وهي عقوبة صارمة ولكنه أمّن الناس على أموالهم وأرواحهم ، وهذه اليد الخائنة التي قطعت إنما هي عضو أشل تأصل فيها الداء والمرض ، وليس من المصلحة أن نتركها حتى يسري المرض إلى جميع الجسد ، ولكنّ الرحمة أن نبترها ليسلم سائر البدن ، ويدٌ واحدة تقطع كفيلة بردع المجرمين ، وكف عدوانهم وتأمين الأمن والاستقرار للمجتمع ، فأين تشريع هؤلاء من تشريع الحكيم العليم ، الذي صان به النفوس والأموال والأرواح ! !