Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 65, Ayat: 1-3)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 1 ] أحكام الطلاق التحليل اللفظي { لِعِدَّتِهِنَّ } : أي لزمان عدتهن ، أو لاستقبال عدتهن . قال الجرجاني : اللام بمعنى ( في ) أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن ، وعدَّةُ المرأة أيام قروئها ، وأيام إحدادها على بعلها ، وأصل ذلك كله من العد لأنها تعد أيام أقرائها ، أو أيام حمل الجنين ، أو أربعة أشهر وعشر ليال . { وَأَحْصُواْ } : أي اضبطوا ، واحفظوا ، وأكملوا العدَّة ثلاثة قروء كوامل . وأصل معنى الإحصاء : العدُّ بالحصى كما كان معتاداً قديماً ، ثم صار حقيقة فيما ذكر . { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية تحميكم وتصونكم ، وذلك بالطاعة في الأوامر ، واجتناب النواهي . { بِفَٰحِشَةٍ } : الفاحشة ، والفُحْش ، والفحشاء : القبيحُ من القول والفعل ، وجمعها فواحش ، وكلُّ ما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي يسمى ( فاحشة ) ولهذا يسمى الزنى فاحشة قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] . { حُدُودُ ٱللَّهِ } : الحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي ، والحدُّ في الحقيقة هو النهاية التي ينتهي إليها الشيء ، وحدودُ الله ضربان : ضرب حدَّها للناس في مطاعمهم ومشاربهم مما أحلَّ وحرم ، والضرب الثاني عقوبات جعلت لمن ركب ما نُهِيَ عنه كحد السارق . { ظَلَمَ نَفْسَهُ } : الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، قال تعالى : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . { أَجَلَهُنَّ } : الأجل غاية الوقت ومدَّتُه . والمراد في الآية أي قاربن انقضاء أجل العدّة . { بِمَعْرُوفٍ } : المعروف ما يستحسن من الأفعال ، وأصل المعروف ضد المنكر . والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله ، والتقرب إليه ، والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه الشرع ، ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات . والمعروف في الإمساك النَّصَفة وحسن العشرة والصحبة فيما للزوجة على زوجها ، وفي المفارقة أداء المهر والتمتيع ، والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط . { ذَوَىْ عَدْلٍ } : أي رجلين بيّنا العدالة ، والعدل : المرضيُّ قوله وحكمه . قال الحسن : ذوي عدلٍ من المسلمين . { يَتَوَكَّلْ } : يستسلم ويعتمد في أموره على الله ، لعلمه أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده ، ويصرف أمره إليه . { حَسْبُهُ } : أي كافيه . ومنه قول المؤمن ( حسبي الله ونعم الوكيل ) . { بَٰلِغُ } : أي نافذ أمره والمعنى سيبلغ الله أمره فيما يريد منكم . { قَدْراً } : أي تقديراً وتوقيتاً ، وهو بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه ، لأن العبد إذا علم أن كلَّ شيءٍ من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى ، لا يبقى له إلا التسليم للقدر ، والتوكل على الله تعالى . المعنى الإجمالي يخاطب الله سبحانه نبيه المختار صلى الله عليه وسلم قائد الأمة إلى الخير ، وهاديها إلى الحق ، تشريفاً له وتعظيماً ، وتنبيهاً لأمته وتعليماً ، بأن المسلم إذا أراد أن يطلِّق زوجه فله ذلك . ولكن عليه أن يراعي في ذلك الوقت الذي يطلَّقها فيه ، فلا يطلِّقْها إلا في طهر لم يجامعها فيه ، فإن فعل ذلك فعليه أن يحصي الوقت ، ويضبط أيام العدة ليعرف وتعرف انتهاء عدتها . وانفصام عرى الزوجية بينهما ، وعلى المؤمن أن يكون مصاحباً لتقوى الله وخشيته في كل عمل يؤديه ، وأمرٍ يقوم به ليكون عمله صحيحاً سليماً . والمعتدة تقعد في منزل زوجها لا يجوز له أن يُخرجها ، ولا يجوز لها أن تخرج ، ولو أذن لها زوجها بذلك إلا إذا ارتكبت فاحشة محققة تعذّرَ معها البقاء في منزل زوجها فتخرج لذلك ، هذا أمر الله وحكمه ، وحدُّه الفاصل الذي أقامه لطاعته فمن تعدَّاه ، فقد ارتكب ما نهاه الله عنه ، وجلب الشر والندم لنفسه ، فإنه لا يدري لعل الله يحدث في قلبه ما يغيّر حاله ، ويجعله راغباً في زوجه ، مريداً إبقاءها في بيته ، فإذا تمهّل في أمر الطلاق ، واتَّبع ما أرشده إليه الكتاب الكريم كان له سعة فيما يريد ، وإلاَّ ندم ، ولات ساعة مندم . وإذا شارفت المعتدة على نهاية عدتها فالخيار للزوج ، والأمر إليه ، إذا أراد أن يعيدها إلى منزله فعليه أن يعاملها برفق ولين ، وإن أراد أن يفارقها فله ذلك مع توفية جميع حقوقها ، وسواء اختار المفارقة أو الإمساك فعليه أن يُشهد على ذلك رجلين عدلين في دينهما ، وخلقهما ، واستقامتهما . وعلى الشهود أن يؤدوا الشهادة لوجه الله تعالى ، ولا يكتموها ، أمرٌ من عند الله يتبعه المؤمن ويُخْبتُ له ، ويعلم أن أمامه يوماً يسأل فيه عما قدّم وأخر . وتقوى الله - سبحانه - تجعل للعبد مخرجاً من المضايق مادية كانت أو معنوية ، ويرزق الله - القدير - عبده التقي من حيث لا يؤمل ، ولا يتوهم ، ومن يرجع إلى الله في أموره ، ويتوكل عليه حق التوكل ، فالله كافيه همَّه ، وميسّر عليه أمره ، وأمرُ الله وحكمه في الخلائق نافذ لا محالة ، يفعل ما يشاء ويختار ، ولكن لكل أجل كتاب ، ولكل أمر وقت محدد . وجوه القراءات مُبيِّنَة : قرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر { مُبيَّنة } بالفتح . قوله تعالى : { أَجَلَهُنَّ } : قرأ الجمهور { أجلهن } على الإفراد . وقرأ الضحاك وابن سيرين { آجالهن } على الجمع . قوله تعالى : بالغٌ أمرَه : قرأ الجمهور بالتنوين { بالغٌ } . وروي عن حفص { بالغُ أمرِهِ } بالإضافة . وروي { بالغٌ أمرُهُ } . وروي { بالغاً أمرُه } . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } هو على حذف مضاف أي لاستقبال عدتهن . واللام للتوقيت نحو كتبته لليلةٍ بقيت من شهر رجب . 2 - قوله تعالى : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } . نصب ( لا تدري ) على جملة الترجي ، فلا تدري معلّقة عن العمل ، والجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري . 3 - قوله تعالى : { بالغٌ أَمْرَه } . من قرأ بالتنوين فعلى الأصل ، لأن اسم الفاعل هٰهنا بمعنى الاستقبال و ( أمرَه ) منصوب باسم الفاعل ( بالغٌ ) لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل . ومن قرأ بغير تنوين ، حذف التنوين للتخفيف ، وجرّ ما بعده بالإضافة . ومن قرأ ( أمرُه ) بالرفع على أنه فاعل لـ ( بالغ ) التي هي خبر إنَّ . أو مبتدأ وبالغ خبر مقدم له ، والجملة خبر إن . ومن قرأ ( بالغاً ) على أنها حال من فاعل جعل لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه ( وقد جعل … ) خبر ( إنَّ ) . سبب النزول أولاً : رُوي في " سنن " ابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها . وروى قتادة : عن أنس قال : طلّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وقيل له راجعها فإنها قوَّامة صوَّامة ، وهي من أزواجك في الجنة . وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسرّ إليها حديثاً ، فأظهرته لعائشة ، فطلّقها تطليقة فنزلت الآية . ثانياً : وقال السّدي : نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضاً تطليقة واحدة ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ، وتحيض ، ثمّ تطهر ، فإذا أراد أن يطلِّقَها ، فليطلِّقْها حين تطهر من قبل أن يجامعها ، فتلك العدَّةُ التي أمر الله تعالى أن يُطَلَّق لها النساء . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : قوله تعالى : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } نداء للنبي صلى الله عليه وسلم وخطاب له على سبيل التكريم والتنبيه . ويحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوهاً : أحدها : اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لهم إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به ، إلا ما خص به دونهم . والثاني : أنّ تقديره : يا أيها النبي قل لأمتك { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ … } . والثالث : خص النداء به صلى الله عليه وسلم على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أمته ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه . وفيه إظهار لجلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه ، ولذلك اختير لفظ ( النبي ) لما فيه من الدلالة على علو مرتبته . والرابع : الخطاب كالنداء له صلى الله عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله : ( ألا فارحموني يا إلٰه محمد ) . والخامس : إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريماً له صلى الله عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يُخَاطبْ به تعظيماً . والسادس : حذف نداء الأمة ، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم . قال القرطبي : إذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : ( يا أيها الرسول ) . اللطيفة الثانية : فإن قيل : ما السرّ في تسمية الطلاق بـ ( الطلاق البدعي ) ، أو ( الطلاق السني ) ؟ فالجواب كما قال الإمام الرازي : إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضاً لم تعتد بأيام حيضها من عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء ، فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء ، وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلّقة التي لا هي معتدة ، ولا ذات بعل ، والعقولُ تستقبح الإضرار . ففي طلاقه إيَّاها في الحيض سوء نظر للمرأة ، وفي الطلاق في الطُّهر الذي جامعها فيه ، وقد حملت فيه سوء نظر للزوج . فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أُمنَ هذان الأمران ، لأنها تعتدّ عقيب طلاقه إياها ، على أمان من اشتمالها على ولد منه . اللطيفة الثالثة : قال الربيع بن خيثم : " إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكَّلَ عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاه أجاب له " . وتصديق ذلك في كتاب الله { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } [ التغابن : 17 ] { وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عمران : 101 ] { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] . اللطيفة الرابعة : قال الله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } ولم يقل ( واتقوا الله ) . قال الفخر الرازي : فيه من المبالغة ما ليس في ذلك ، فإن لفظ الرب ينبِّهُهم على التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذٍ خوفاً من فوت تلك التربية . اللطيفة الخامسة : قال الرازي : ثم في هذه الآية لطيفة ، وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال ، فقال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وقريب من هذا قوله تعالى : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ النور : 32 ] . اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } إحصاء العدة يكون لمعانٍ : أحدها : لما يريد من رجعة وإمساك ، أو تسريح وفراق . والثاني : لكي يشهد على فراقها ، ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليها كأختها ، أو أربعٍ سواها . والثالث : لتوزيع الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً . اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ، أي من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها . والمقصود التحريض على طلاق الواحدة ، والنهيُ عن طلاق الثلاث ، فإنه إذا طلَّق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق ، والرغبةِ في الارتجاع ، فلا يجد للرجعة سبيلاً . الأحكام الشرعية الحكم الأول : هل الطلاق مباح أو محظور ؟ لقد أباح الله تعالى الطلاق بقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ من أبغض المباحات عند الله عز وجل الطلاق " . وفي لفظ " أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق " . قال الحنفية والحنابلة : الطلاق محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله كلَّ مِذْواق مِطْلاق " وإنما أبيح للحاجة ، ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات التي تتحقق فيه الحاجة المبيحة . وقد نقل عن ابن حجر أن الطلاق : أ - إمّا واجب كطلاق المُوْلي بعد التربص مدة أربعة أشهر ، وطلاقِ الحكمين في الشقاق بين الزوجين إذا لم يمكن الإصلاح . ب - أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها ، أو تكون غير عفيفة . جـ - أو حرام وهو الطلاق البدعي . د - أو مكروه بأن سَلِمَ الحالُ عن ذلك كله للحديث . الحكم الثاني : ما هو الطلاق السّني وما هي شروطه ؟ روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلَّق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ ، فقال : " ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ، وإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسّها ، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل " . ولهذا الحديث حصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع ، وفي الطهر مأذون فيه إذا لم يجامعها فيه . والجمهور : على أنه لو طلّق لغير العدة التي أمر الله وقع طلاقه وأثمَ ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة جدهن جد وهزلهنّ جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة " . واختلف الفقهاء فيما يدخل في طلاق السنة . فقال الحنفية : إن طلاق السنة من وجهين : أحدهما : في الوقت وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع ، أو حاملاً قد استبان حملها . والآخر : من جهة العدد وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة . وقال المالكية : طلاق السنة ما جمع شروطاً سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض ، طاهراً ، لم يمسها في ذلك الطهر ، ولا تقدَّمه طلاق في حيض ، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض . وقال الشافعية : طلاق السنة أن يطلقها كل طهر خاصة ، ولو طلقها ثلاثاً في طهر لم يكن بدعة . وقال الحنابلة : طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه . فالاتفاق واقع على أن طلاق السنة في طهر لم يجامعها فيه ، وأما من أضاف كونها حاملاً فلما ورد في حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " مُرْه فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت ، أو وهي حامل " . وأما العدد والخلاف فيه فبحثه عند قوله تعالى : { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } [ البقرة : 229 ] . وأما قول المالكية : " وهي ممن تحيض " فهذا شرط متفق عليه . قال الفخر الرازي : والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها ، غير الآيسة ، والحامل ، إذ لا سنة في الصغيرة وغير المدخول بها ، والآيسة ، ولا بدعة أيضاً لعدم العدة بالأقراء . وقال أبو بكر الجصاص : والوقتُ مشروط لمن يطلق في العدة لأنَّ من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض . وأما بقية الشروط فمختلف فيها وتنظر في كتب الفروع . الحكم الثالث : هل للمعتدة أن تخرج من بيتها ؟ دلّ قوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } على أنّ المطلقة لا تخرج من مسكن النكاح ما دامت في العدة ، فلا يجوز لزوجها أن يُخرجها ، ولا يجوز لها الخروج أيضاً إلاّ لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدّة ، والرجعيةُ والمبتوتةُ في هذا سواء . واختلف الفقهاء في خروج المعتدة من بيتها لقضاء حوائجها على مذاهب : أ - قال مالك وأحمد : المعتدة تخرج في النهار في حوائجها ، وإنما تلزم منزلها بالليل . ب - وقال الشافعي : لا تخرج الرجعيّة ليلاً ولا نهاراً وإنما تخرج المبتوتة في النهار . جـ - وقال أبو حنيفة : المطلّقة لا تخرج ليلاً ولا نهاراً ، والمتوفّى عنها زوجها لها أن تخرج في النهار . دليل المالكية والحنابلة : استدل مالك وأحمد بحديث ( جابر بن عبد الله ) قال : " طُلّقت خالتي فأرادت أن تَجُدّ نخلها ، فزجرها رجل أن تخرج ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " بلى فجُدّي نخلك ، فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً " . دليل الشافعية : واستدل الشافعي بالآية الكريمة : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } بالنسبة للمطلقة رجعياً فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً . وأمّا المبتوتة فاستدل بحديث ( فاطمة بنت قيس ) فقد ورد في صحيح مسلم أنَّ ( فاطمة بنت قيس ) قالت يا رسول الله : زوجي طلقني ثلاثاً وأخاف أن يُقْتحم عليّ قال : فأمرها فتحولت . وفي البخاري : عن عائشة أنَّ ( فاطمة بنت قيس ) كانت في مكانٍ وحش فخيف على ناحيتها ، فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها . دليل الحنفية : واستدل أبو حنيفة بعموم قوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فقد حرمت على المطلّقة أن تخرج ليلاً أو نهاراً ، سواءً كانت رجعية أم مبتوتة ، وأما المتوفى عنها زوجها فتحتاج للخروج نهاراً لقضاء حوائجها ولا تخرج ليلاً لعدم الضرورة . قال الحنفية : ليس لها أن تخرج لأن السكنى حق للشرع مؤكد لا يسقط بالإذن حتى لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ، ويلزمها أن تكتري بيته ، وأما أن يحل لها الخروج فلا . قال الشافعية : إنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما ، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن . وقد قال الفخر الرازي : " فلم يكن لها الخروج ، وإن رضي الزوج ، ولا إخراجها وإن رضيت إلا عن ضرورة " . الحكم الرابع : ما هي الفاحشة التي تخرج بها المعتدة من المنزل ؟ لقد اختلف السلف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء . فقال أبو حنيفة : بقول ابن عمر : خُروجُها قبل انقضاء العدة فاحشةٌ . فيكون معنى الآية إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق . والاستثناء عليه راجع إلى { لاَ يَخْرُجْنَ } والمعنى : " لا يُسمح لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة ، ومن المعلوم أنه لا يُسمح لهن فيه فيكون ذلك منعاً عن الخروج على أبلغ وجه . قال ابن الهمام : كما يقال : " لا تزن إلاَّ أن تكون فاسقاً ، ولا تشتم أُمَّك إلا أن تكون قاطع رحم ، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جداً " . وقال أبو يوسف بقول الحسن وزيد بن أسلم : هو أن تزني فتخرج للحد ( أي لا تُخْرجوهنَّ إلا إن زنين ) . وعن ابن عباس قال : إلا أن تبذو على أهله ، فإذا فعلت ذلك حلَّ لهم أن يُخْرجوها ، كما ورد عن فاطمة بنت قيس أنها أخرجت لذلك . وعنه أيضاً قال : جميع المعاصي من سرقة أو قذف أو زنا أو غير ذلك واختاره الطبري . وقال الضحاك : الفاحشة المبينة : عصيانُ الزوج . وقال قتادة : إلا أن تَنْشزَ فإذا فعلت حلَّ إخراجها . قال أبو بكر الجصاص : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ ، وجائز أن يكون جميعها مراداً ، فيكون خروجها فاحشة ، وإذا زنت أخرجت للحد ، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضاً . فأما عصيان الزوج والنشوز ، فإن كان في البذاءة وسوء الخلق اللذين يتعذر القيام معها فيه فجائز أن يكون مراداً ، وإن كانت إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها " . وأما ابن العربي فقال : أما من قال إنه الخروج للزنى ، فلا وجه له لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام ، وأما من قال إنه البذاء فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس ، وأما من قال إنه كل معصية فوهم لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج ، وأما من قال إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام : " لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدياً " . الحكم الخامس : ما حكم الإشهاد في الفرقة والرجعة ؟ قال أبو حنيفة : الإشهاد مندوب إليه في الفرقة والرجعة لقوله تعالى : { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] فإنَّ الإشهاد في البيع مندوب لا واجب فكذا هنا وهو قول مالك والشافعي وأحمد في أحد قوليهما . وقال الشافعي وأحمد : في القول الآخر : الإشهاد واجب في الرَّجعة ، مندوب إليه في الفرقة . أدلة الجمهور : 1 - لما جعل الله تعالى للزوج الإمساك أو الفراق ، ثم عقَّبه بذكر الإشهاد ، كان معلوماً وقوع الرجعة إذا رجع ، وجوازُ الإشهاد بعد ذلك ؛ إذ لم يجعل الإشهاد شرطاً في الرجعة . 2 - لم يختلف الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في الآية إنما هو تَرْكُها حتى تنقضي عدتها ، وأن الفرقة تصح ، وإن لم يقع الإشهاد عليها ، وقد ذُكر الإشهاد عقيب الفرقة ، ثمَّ لم يكن شرطاً في صحتها فكذلك الرجعة . 3 - وأيضاً لما كانت الفرقة حقاً للزوج ، وجازت بغير الإشهاد ، إذ لا يحتاج فيها إلى رضا غيره ، وكانت الرجعة أيضاً حقاً له وجب أن تجوز بغير إشهاد . 4 - وأيضاً لما أمر الله بالإشهاد على الإمساك ، أو الفرقة احتياطاً لهما ، ونفياً للتهمة عنهما ، إذا علم الطلاق ولم يعلم الرجعة ، أو لم يعلم الطلاق والفراق ، فلا يؤمن التجاحد بينهما ، ولم يكن معنى الاحتياط مقصوراً على الإشهاد في حال الرجعة أو الفرقة ، بل يكون الاحتياط باقياً وإن أشهد بعدهما وجب أن لا يختلف حكمهما إذا أشهد بعد الرجعة بساعة أو ساعتين . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً : الطلاق السني هو الطلاق الذي يكون في طهر لم تجامع فيه المرأة . ثانياً : الطلاق البدعي ما كان في الطهر الذي جومعت فيه المرأة ، أو في وقت الحيض . ثالثاً : السكنى واجبة للمطلَّقة على زوجها فلا يجوز له إخراجها حتى تنتهي العدة . رابعاً : إذا خرجت المرأة من بيت زوجها قبل انتهاء عدتها فقد عصت الله وأثمت . خامساً : حدود الله تعالى يجب التزامها وعدم تعديها لأنها شريعة الله . سادساً : إقامة الشهادة حق لله تعالى على عباده لدفع الظلم عن الخلائق . سابعاً : التوكل على الله والالتجاء إليه ، ملاك الأمر كله ، وراحة النفس . خاتمة البحث : حكمة التشريع الأسرة لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي ، وبها قوامه ، ففيها تلتقي النفوس على المودة والرحمة ، والتعاطف والستر ، وفي كنفه تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ، ومنه تمتد وشائج الرحمة ، وأواصر التكافل . ولكنّ الحياة الواقعية والطبيعة البشرية تُثْبت بين الفينة والأخرى ، أنَّ هناك حالاتٍ لا يمكن معها استمرار الحياة الزوجية ، لذلك شرع الله الطلاق كآخر حل من حلول تتقدمه ، إن لم تُجْدِ كل المحاولات ، وأباح للرجل أن يركن إلى أبغض الحلال وهو الطلاق . ولكن ليس من السُّنة أن يُطلِّق الرجل في كل وقت يريد ، فليس له أن يطلقها وهو راغب عنها في الحيض ، وفي ذلك دعوة له ليتمهل ولا يسرع ليفصل عرى الزوجية ، ويتفكر في محاسن زوجه لعلَّها تغلب سيئاتها ، فتتغير القلوب ، وتعود إلى صفائها بعد موجة من الغضب اعترتها ، وسحابة غشيتْ المودة التي يُكنُّها الزوج لزوجه . والطلاق يقع حيثما طلق في الوقت الذي بيَّنه الشرع أو في غيره ، لأن فكَّ الزوجية ، وهدم اللبنة الأولى للمجتمع ليس لعباً تلوكه الألسنة في كل وقت ، وعند أدنى بادرة ، بل هو الجد كل الجد فمن نطق به لزمته نتائجه وعصى الله - جلَّت حكمته - لأنه لم يقف عند حدوده ، ويتبع تعاليمه . وأمر الله - العليم الخبير - بإحصاء العدة لضبط انتهائها ، ومعرفة أمدها بدقة لعدم إطالة الأمد على المطلَّقة ، والإضرار بها ، ولكيلا تنقص من مدتها مما لا يؤدي إلى المراد منها وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل .