Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 17-18)
Tafsir: Rawāʾiʿ al-bayān tafsīr ʿāyāt al-aḥkām
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
[ 1 ] عمارة المساجد التحليل اللفظي { أَن يَعْمُرُواْ } : عمارة المسجد تطلق على بنائه وإصلاحه ، وتطلق على لزومه والإقامة فيه لعبادة الله ، فالعمارة قسمان : حسيّة ومعنوية ، وكلاهما مراد في الآية . { شَاهِدِينَ } : أي مقرين ومعترفين به ، وذلك بإظهار آثار الشرك والوثنية . { حَبِطَتْ } : ضاعت وذهب ثوابها . { وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ } : إقامة الصلاة : الإتيان بها على الوجه الأكمل ، معتدلة مقوّمة بسائر شروطها وأركانها . { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } : أي لم يخف إلا الله ، والخشية في اللغة معناها الخوف . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه : لا ينبغي للمشركين ولا يليق بهم ، وليس من شأنهم أن يعمروا بيوت الله ، وهم في حالة الكفر والإشراك بالله ، لأن عمارة المساجد تقتضي الإيمان بالله والحبّ له ، وهؤلاء كفروا بالله شهدت بذلك أقوالهم وأفعالهم ، فكيف يليق بهم أن يعمروا بيوت الله ! ! هؤلاء المشركون ضاعت أعمالهم وذهب ثوابها ، وهم في جهنم مخلّدون في العذاب ، لا يخرجون من النار ، ولا يخفف عنهم من عذابها بسبب الكفر والإشراك . ثم أخبر تعالى أنّ عمارة المساجد إنما تحصل من المؤمنين بالله ، المطيعين له ، المصدّقين باليوم الآخر ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويخشون الله حق خشيته ، فهؤلاء المتقون لله جديرون بعمارة بيوت الله ، وهم أهل لأن يكونوا من المهتدين ، الفائزين بسعادة الدارين ، المستحقين لرضوان الله . سبب النزول روي أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب ، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيّروهم بالشرك ، وجعل علي بن أبي طالب يوبّخُ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، فقال العباس : تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا ؟ فقالوا : وهل لكم من محاسن ؟ قالوا : نعم ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني فنزلت { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } الآية . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور { أَن يَعْمُرُواْ } وقرأ ابن السميقع ( أن يُعْمِروا ) بضم الياء وكسر الميم من ( أعمر ) الرباعي بمعنى أن يعينوا على عمارته . 2 - قرأ الجمهور { مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } بالجمع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( مسجد الله ) بالإفراد . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ } أن المصدرية وما بعدها في موضع رفع اسم كان و ( للمشركين ) خبرها مقدم ، و ( شاهدين ) حال من الواو في ( يعمروا ) . 2 - قوله تعالى : { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } عسى من أخوات ( كان ) وجملة ( أن يكونوا ) خبرها ، واسم الإشارة اسمها ، والخبر يكون فعلاً مضارعاً في الغالب كما قال ابن مالك : @ ككان " كاد " و " عسى " لكنْ ندرْ غير مضارع لهذين خَبَرْ @@ وجه المناسبة بين الآيات الكريمة مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين ، وأنواعاً من قبائحهم وجرائمهم التي توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة تعلي مقامهم وترفع مكانتهم ، منها سقايتهم للحاج وعمارتهم للمسجد الحرام فردّ الله عليهم بهذه الآيات الكريمة . لطائف التفسير اللطيفة الأولى : أطلق المساجد وأراد به المسجد الحرام على رأي بعض المحققين ، وعبّر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها ، فهو من باب إطلاق العموم وإرادة الخصوص . اللطيفة الثانية : العلة الحقيقية في منع المشركين من عمارة بيوت الله ، هي نفس الكفر لا الشهادة به ، ونكتة تقييده بها أنه كفر صريح لا تمكن المكابرة به ، لأنه كفرٌ مقرون بالإقرار ، وهو قولهم في الطواف : ( لبيّك لا شريك لك ، إلاّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ) ونصبهم الأوثان والأصنام حول البيت العتيق . اللطيفة الثالثة : قال أبو حيان : أمرُ المؤمنين بعمارة المساجد ، يتناول عمارتها ، ورمّ ما تهدم منها ، وتنظيفها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر - ومن الذكر دراسة العلم - وصونها عمّا لم تبنَ له من الخوض في أحوال الدنيا ، وفي الحديث الشريف : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " . اللطيفة الرابعة : التعبير بقوله تعالى : { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } في جانب المؤمنين ، يؤخذ منه قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها ، حيث بيّن تعالى أن حصول الإهتداء لمن آمنوا بالله ولم يخشوا غيره دائرٌ بين ( لعلّ ) و ( عسى ) وإذا كان هذا حال المؤمنين ، فكيف يطمع المشركون بالهداية والفوز وهم على ما هم عليه من كفر وإشراك ؟ ! الأحكام الشرعية الحكم الأول : ما المراد بعمارة المساجد في الآية الكريمة ؟ ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بعمارة المساجد هو بناؤها وتشييدها وترميم ما تهدم منها ، وهذه هي ( العمارة الحسية ) ويدل عليه قوله عليه السلام : " من بنى لله مسجداً ولو كمِفْحَص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة " . وقال بعضهم : المراد عمارتها بالصلاة والعبادة وأنواع القربات كما قال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } [ النور : 36 ] وهذه هي ( العمارة المعنوية ) التي هي الغرض الأسمى من بناء المساجد ، ولا مانع أن يكون المراد بالآية النوعين ( الحسية ) و ( المعنوية ) وهو اختيار جمهور العلماء لأن اللفظ يدل عليه ، والمقام يقتضيه . قال أبو بكر الجصاص : " وعمارة المسجد تكون بمعنيين : أحدهما : زيارته والمكث فيه ، والآخر : بناؤه وتجديد ما استرم منه ، وذلك لأنه يقال : اعتمر إذا زار ، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت ، وفلان من عُمّار المساجد إذا كان كثير المضيّ إليها ، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ، ومن بنائها ، وتولّي مصالحها ، والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين " . الحكم الثاني : ما المراد بالمساجد في الآية الكريمة ؟ 1 - قال بعض العلماء : المراد به المسجد الحرام لأنه المفرد العلم ، الأكمل الأفضل وهو قبلة المساجد ، وسبب النزول يؤيد هذا القول وهو مروي عن عكرمة ، واختاره بعض المحققين لقراءة الإفراد ( أن يعمروا مسجد الله ) . ب - وقال آخرون : المراد به جميع المساجد ، لأنه جمع مضاف فيعم ، ويدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أوّلياً ، كما إذا قلنا : فلان لا يقرأ كتب الله ، يدخل فيه القرآن بطريق أوكد . أقول : هذا هو الظاهر من الآية الكريمة ، لأن الصيغة تفيد عموم الحكم ، فلا يليق بالمشركين أن يعمروا أي مسجد من مساجد الله بأنواع العمارة ، لأن الكفر ينافي ذلك ، كما لا يصح لهم دخول هذه الأماكن الطاهرة المقدسة ، كما قال الإمام مالك رحمه الله ، وسيأتي حكم دخول المشركين للمساجد في الآيات التالية . الحكم الثالث : هل يجوز استخدام الكافر في بناء المساجد ؟ أخذ بعض العلماء من الآية الكريمة أنه لا يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المسجد ، لأنه من العمارة الحسيّة ، وقد نهى تعالى عن تمكين المشركين من عمارة بيوت الله . والظاهر جواز استخدامه لأن الممنوع منها إنما هو ( الولاية ) عليها ، والاستقلال بتصريف شؤونها ، كأن يكون ناظر المسجد ، أو المتصرف بالوقف كافراً ، وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه ، كنحت الحجارة والبناء والنجارة ، فلا يظهر دخوله في المنع ، وهذا قول جمهور الفقهاء . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - أعمال البر الصادرة من المشركين لا ثواب فيها بسبب الكفر والإشراك لقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . 2 - عمارة المساجد جديرٌ بها أهل الإيمان الذين يعظّمون حرمات الله . 3 - وجوب الإخلاص لله في القول والعمل . 4 - ينبغي أن يكون الغرض من بناء المسجد رضوان الله لا الرياء والسمعة .