Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 109-115)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة ، وبيان حال السعداء والأشقياء ، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي له عن الامتراء في أن ما يعبدونه غير نافع ولا ضار ، ولا تأثير له في شيء . وحذف النون في « لا تك » لكثرة الاستعمال ، والمرية الشك . والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه وسلم . وقيل المعنى لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء . وقيل لا تك في شك من سوء عاقبتهم . ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني ، وهذا النهي له صلى الله عليه وسلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك . فإنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك أبداً . ثم بيّن له سبحانه أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم ، أو أن عبادتهم كعبادة آبائهم من قبل ، وفي هذا استثناء تعليل للنهي عن الشك . والمعنى أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره . فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك ، فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك ، وجاء بالمضارع في { كما يعبد آباؤهم } لاستحضار الصورة . ثم بيّن له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } من العذاب كما وفينا آباءهم ، لا ينقص من ذلك شيء ، وانتصاب غير الحال ، والتوفية لا تستلزم عدم النقص ، فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص ، كما يجوز أن يوفى وهو كامل . وقيل المراد نصيبهم من الرزق ، وقيل ما هو أعمّ من الخير والشرّ . { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ } أي التوراة { فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } أي في شأنه وتفاصيل أحكامه ، فآمن به قوم ، وكفر به آخرون ، وعمل بأحكامه قوم ، وترك العمل ببعضها آخرون ، فلا يضق صدرك يا محمد بما وقع من هؤلاء في القرآن { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي لولا أن الله سبحانه قد حكم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح لقضى بينهم أي بين قومك ، أو بين قوم موسى فيما كانوا فيه مختلفين ، فأثيب المحقّ وعذب المبطل أو الكلمة هي أن رحمته سبحانه سبقت غضبه ، فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك . وقيل إن الكلمة هي أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، وهذا من جملة التسلية له صلى الله عليه وسلم ، ثم وصفهم بأنهم في شك من الكتاب فقال { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } أي من القرآن ، إن حمل على قوم محمد صلى الله عليه وسلم ، أو من التوراة ، إن حمل على قوم موسى عليه السلام ، والمريب الموقع في الريبة . ثم جمع الأوّلين والآخرين في حكم توفية العذاب لهم ، أو هو والثواب فقال { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر « وإن » بالتخفيف على أنها إن المخففة من الثقيلة وعملت في { كلا } النصب ، وقد جوّز عملها الخليل وسيبويه ، وقد جوّز البصريون تخفيف " إن " مع إعمالها ، وأنكر ذلك الكسائي وقال ما أدري على أيّ شيء قرىء { وإن كلا } ؟ وزعم الفراء أن انتصاب { كلا } بقوله { ليوفينهم } ، والتقدير وإن ليوفينهم كلا ، وأنكر ذلك عليه جميع النحويين . وقرأ الباقون بتشديد { إن } ونصبوا بها { كلا } . وعلى كلا القراءتين فالتنوين في { كلا } عوض عن المضاف إليه أي وإن كل المختلفين . وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر { لما } بالتشديد ، وخففها الباقون . قال الزجاج لام { لما } لام إن ، و " ما " زائدة مؤكدة ، وقال الفراء " ما " بمعنى من كقوله { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } النساء 72 أي وإن كلاً لمن ليوفينهم ! وقيل ليست بزائدة بل هي اسم دخلت عليها لام التوكيد ، والتقدير وإن كلاً لمن خلق . قيل وهي مركبة ، وأصلها لمن ما ، فقلبت النون ميماً واجتمعت ثلاث ميمات ، فحذفت الوسطى حكي ذلك النحاس عن النحويين . وزيف الزجاج هذا وقال " من " اسم على حرفين فلا يجوز حذف النون . وذهب بعض النحويين إلى أن " لما " هذه بمعنى إلا ، ومنه قوله تعالى { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } الطارق 4 وقال المازني الأصل لما المخففة ثم ثقلت . قال الزجاج وهذا خطأ ، إنما يخفف المثقل ولا يثقل المخفف . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام يجوز أن يكون التشديد من قولهم لممت الشيء ألمه إذا جمعته ، ثم بنى منه فعلى كما قرىء { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } المؤمنون 44 وأحسن هذه الأقوال أنها بمعنى إلا الاستثنائية . وقد روي ذلك عن الخليل ، وسيبويه ، وجميع البصريين ، ورجحه الزجاج ويؤيده أن في حرف أبيّ « وإن كلا إلا ليوفينهم » كما حكاه أبو حاتم عنه . وقرىء بالتنوين أي جميعاً . وقرأ الأعمش « وإن كل لما » بتخفيف إن ورفع كل وتشديد لما ، وتكون إن على هذه القراءة نافية { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ } أيها المختلفون { خَبِيرٌ } لا يخفى عليه منه شيء ، والجملة تعليل لما قبلها . ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه ، فقال { فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي كما أمرك الله ، فيدخل في ذلك جميع ما أمره به وجميع ما نهاه عنه ، لأنه قد أمره بتجنب ما نهاه عنه ، كما أمره بفعل ما تعبده بفعله ، وأمته أسوته في ذلك ، ولهذا قال { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي رجع من الكفر إلى الإسلام ، وشاركك في الإيمان ، وهو معطوف على الضمير في { فاستقم } لأن الفصل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقام التأكيد أي وليستقم من تاب معك ، وما أعظم موقع هذه الآية وأشدّ أمرها ، فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهرة ، والذوات المقدسة ، ولهذا يقول المصطفى « شيبتني هود » كما تقدّم { وَلاَ تَطْغَوْاْ } الطغيان مجاوزة الحد ، لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بين أن الغلوّ في العبادة ، والإفراط في الطاعة على وجه تخرج به عن الحد الذي حدّه ، والمقدار الذي قدّره ممنوع منه منهيّ عنه ، وذلك كمن يصوم ولا يفطر ، ويقوم الليل ولا ينام ، ويترك الحلال الذي أذن الله به ورغب فيه ، ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه " أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته تغليباً لحالهم على حاله ، أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يجازيكم على حسب ما تستحقون ، والجملة تعليل لما قبلها . قوله { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } ، قرأ الجمهور بفتح الكاف ، وقرأ طلحة بن مصرّف ، وقتادة ، وغيرهما " تركنوا " بضم الكاف . قال الفراء وهي لغة تميم وقيس ، قال أبو عمرو وقراءة الجمهور هي لغة أهل الحجاز ، قال ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف ، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم . وقرأ ابن أبي عبلة بضم التاء وفتح الكاف على البناء للمفعول من أركنه . قال في الصحاح ركن إليه يركن بالضم . وحكى أبو زيد ركن إليه بالكسر ، يركن ركوناً فيهما أي مال إليه وسكن قال الله تعالى { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وأما ما حكى أبو زيد ركن يركن بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين . انتهى . وقال في شمس العلوم الركون السكون . يقال ركن إليه ركوناً ، قال الله تعالى { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } انتهى . وقال في القاموس ركن إليه ، كنصر وعلم ، ومنع ركوناً مال وسكن ، انتهى . فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما قيده به صاحب الكشاف حيث قال فإن الركون هو الميل اليسير ، وهكذا فسره المفسرون ، بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيوداً لم يذكرها أئمة اللغة . قال القرطبي في تفسيره الركون حقيقته الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به . ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخصّ من معناه اللغوي . فروي عن قتادة ، وعكرمة في تفسير الآية أن معناها لا تودوهم ولا تطيعوهم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية الركون هنا الإدهان ، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم . وقال أبو العالية معناه لا ترضوا أعمالهم . وقد اختلف أيضاً الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة ؟ فقيل خاصة ، وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين ، وأنهم المرادون بالذين ظلموا ، وقد روي ذلك عن ابن عباس . وقيل إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم ، وهذا هو الظاهر من الآية ، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون ، لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . فإن قلت وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة ، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح " أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة " وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة ، وما لم يظهر منهم الكفر البواح ، وما لم يأمروا بمعصية الله . وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه ، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح ، فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم . والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله ومن جملة ما يأمرون به الجهاد ، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا ، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم ، وإقامة الحدود على من وجبت عليه . وبالجملة ، فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله ، ولا بدّ في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ، ونحو ذلك مما لا بدّ منه ، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة ، لتواتر الأدلة الواردة به ، بل قد ورد به الكتاب العزيز { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } النساء 59 بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة ، وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا كما في بعض الأحاديث الصحيحة " أعطوهم الذي لهم ، واسألوا الله الذي لكم " بل ورد الأمر بطاعة السلطان ، وبالغ في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال " وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون ، فمجرّد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون ، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهراً وباطناً فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر ، لأمر يقتضي ذلك شرعاً كالطاعة ، أو للتقية ومخافة الضرر منهم ، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة ، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة ، إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ، ولا محبة ، ولا رضا بأفعالهم . قلت أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله ، فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها ، مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدّمنا الإشارة إليها ، ولا شك في هذا ولا ريب ، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله ، كالمناصب الدينية ، ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه ، فذلك واجب عليه فضلاً عن أن يقال جائز له . وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة ، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين ، والأمراء جمعاً بين الأدلة ، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به ، كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة ، وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة ، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة ، مع كراهة ما هم عليه من الظلم ، وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم ، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة ، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا ، فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد ، والأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ، ولا تخفى على الله خافية وبالجملة فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم ، فعليه أن يزن أقواله وأفعاله ، وما يأتي وما يذر بميزان الشرع ، فإن زاغ عن ذلك « فعلى نفسها براقش تجني » ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته ، فهو الأولى له ، والأليق به . يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ، اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم ، وقوّنا على ذلك ويسره لنا ، وأعنا عليه . قال القرطبي في تفسيره وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار . انتهى . وقال النيسابوري في تفسيره قال المحققون الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة . أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة ، فغير داخلة في الركون . قال وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة ، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } الزمر 36 . انتهى . قوله { فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ } بسبب الركون إليهم ، وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار ، أو كالنار ، ومصاحبة النار توجب لا محالة مسّ النار ، وجملة { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } في محل نصب على الحال من قوله فتمسكم النار . والمعنى أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم ، وينقذكم منها { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } من جهة الله سبحانه ، إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب الركون الذي نهيتم عنه ، فلم تنتهوا عناداً وتمرّداً . قوله { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ } لما ذكر الله سبحانه الاستقامة خصّ من أنواعها إقامة الصلاة لكونها رأس الإيمان ، وانتصاب { طرفي النهار } على الظرفية ، والمراد صلاة الغداة والعشيّ ، وهما الفجر والعصر . وقيل الظهر موضع العصر ، وقيل الطرفان الصبح والمغرب . وقيل هما الظهر والعصر . ورجح ابن جرير أنهما الصبح والمغرب ، قال والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح ، فدلّ على أن الطرف الآخر المغرب { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } أي في زلف من الليل ، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض ، ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة ، وقرأ ابن القعقاع وأبو إسحاق وغيرهما « زلفاً » بضم اللام جمع زليف ، ويجوز أن يكون واحده زلفة . وقرأ ابن محيصن بإسكان اللام . وقرأ مجاهد « زلفى » مثل فعلى . وقرأ الباقون « زلفاً » بفتح اللام كغرفة وغرف . قال ابن الأعرابي الزلف الساعات واحدتها زلفة . وقال قوم الزلفة أوّل ساعة من الليل بعد مغيب الشمس . قال الأخفش معنى { زلفاً من الليل } صلاة الليل { إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ } أي إن الحسنات على العموم ، ومن جملتها بل عمادها الصلاة يذهبن السيئات على العموم . وقيل المراد بالسيئات الصغائر ، ومعنى { يذهبن السيئات } يكفرنها حتى كأنها لم تكن ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ } إلى قوله { فَٱسْتَقِمْ } وما بعده . وقيل إلى القرآن ذكرى للذاكرين أي موعظة للمتعظين { وَٱصْبِرْ } على ما أمرت به من الاستقامة ، وعدم الطغيان ، والركون إلى الذين ظلموا ! وقيل إن المراد الصبر على ما أمر به دون ما نهى عنه ، لأنه لا مشقة في اجتنابه ، وفيه نظر ، فإن المشقة في اجتناب المنهيّ عنه كائنة ، وعلى فرض كونها دون مشقة امتثال الأمر ، فذلك لا يخرجها عن مطلق المشقة { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي يوفيهم أجورهم ولا يضيع منها شيئاً فلا يهمله ولا يبخسه بنقص . وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } قال ما قدّر لهم من خير أو شرّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في الآية قال من العذاب . وأخرجا عن أبي العالية . قال من الرزق . وأخرجا أيضاً عن قتادة في قوله { فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } قال أمر الله نبيه أن يستقيم على أمره ، ولا يطغى في نعمته ، وأخرج أبو الشيخ ، عن سفيان ، في الآية قال استقم على القرآن . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، قال لما نزلت هذه الآية { فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } قال شمروا شمروا فما رؤي ضاحكاً . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج { وَمَن تَابَ مَعَكَ } قال آمن . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن العلاء بن عبد الله بن بدر ، في قوله { وَلاَ تَطْغَوْاْ } قال لم يرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى الذين يجيئون من بعدهم . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس { وَلاَ تَطْغَوْاْ } يقول لا تظلموا . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، قال الطغيان خلاف أمره وارتكاب معصيته . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } قال يعني الركون إلى الشرك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه { وَلاَ تَرْكَنُواْ } قال لا تميلوا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، أيضاً قال { وَلاَ تَرْكَنُواْ } لا تدهنوا . وأخرج أبو الشيخ ، عن عكرمة ، في الآية قال أن تطيعوهم أو تودّوهم أو تصطنعوهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ } قال صلاة المغرب والغداة { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } قال صلاة العتمة . وأخرجا عن الحسن قال الفجر والعصر { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } قال هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء . قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « هما زلفتا الليل » . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في الطرفين قال صلاة الفجر ، وصلاتي العشيّ يعني الظهر والعصر { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } قال المغرب والعشاء . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } قال ساعة بعد ساعة ، يعني صلاة العشاء الآخرة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس أنه كان يستحبّ تأخير العشاء ، ويقرأ { زلفاً من الليل } . وأخرج ابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود ، في قوله { إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ } قال الصلوات الخمس . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، ومحمد بن نصر ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ } قال الصلوات الخمس ، والباقيات الصالحات الصلوات الخمس . وأخرج البخاري ومسلم ، وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له كأنه يسأل عن كفارتها ، فأنزلت عليه { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ } فقال الرجل يا رسول الله ألي هذه ؟ قال " هي لمن عمل بها من أمتي " وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود وغيرهم عن أبي أمامة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ، أقم فيّ حدّ الله مرّة أو مرّتين ، فأعرض عنه ، ثم أقيمت الصلاة ، فلما فرغ قال " أين الرجل ؟ " قال أنا ذا ، قال " أتممت الوضوء وصليت معنا آنفاً ؟ قال نعم . قال فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد " ، وأنزل الله حينئذ على رسوله { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ } . وفي الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة ، ووردت أحاديث أيضاً " أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهنّ " وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، في قوله { ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ } قال هم الذين يذكرون الله في السرّاء والضرّاء ، والشدّة والرخاء ، والعافية والبلاء . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج قال لما نزع الذي قبل المرأة تذكر ، فذلك قوله { ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ } .