Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 1-4)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { المر } قد تقدّم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة ، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف . أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده ، والتقدير على الأول هذه السورة اسمها هذا ، والإشارة بقوله { تِلْكَ } إلى آيات هذه السورة ، والمراد بالكتاب السورة أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن ، ويكون قوله { وَٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ٱلْحَقُّ } مراداً به القرآن كله ، أي هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة ، أو تكون الإشارة بقوله { تِلْكَ } إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن . ويكون قوله { وَٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ٱلْحَقُّ } جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق . قال الفراء { والذي } رفع بالاستئناف وخبره { الحق } ، قال وإن شئت جعلت { الذي } خفضَا نعتاً للكتاب ، وإن كانت فيه الواو كما في قوله @ إلى الملكَ القرمِ وابن الهمامِ @@ ويجوز أن يكون محل { والذي أنزل إليك } الجرّ على تقدير وآيات الذي أنزل إليك ، فيكون الحق على هذا خبراً لمبتدأ محذوف { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } بهذا الحق الذي أنزله الله عليك . قال الزجاج لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } والعمد الأساطين جمع عماد أي قائمات بغير عمد تعتمد عليه ، وقيل لها عمد ولكن لا نراه . قال الزجاج العمد قدرته التي يمسك بها السمٰوات ، وهي غير مرئية لنا ، وقرىء " عمد " على أنه جمع عمود يعمد به ، أي يسند إليه . قال النابغة @ وخبر الجنّ إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد @@ وجملة { ترونها } مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك . وقيل هي صفة لعمد ، وقيل في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير رفع السمٰوات ترونها بغير عمد ، ولا ملجىء إلى مثل هذا التكلف { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي استولى عليه بالحفظ والتدبير ، أو استوى أمره ، أو أقبل على خلق العرش ، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى ، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرّر في موضعه من علم الكلام { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أي ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ، ومصالح العباد { كُلٌّ يَجْرِى لأجل مُّسَمًّى } أي كلّ من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكوّر عندها الشمس ويخسف القمر ، وتنكدر النجوم وتنتثر ، وقيل المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزنها ، وهي سنة للشمس ، وشهر للقمر { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } أي يصرّفه على ما يريد ، وهو أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } أي يبينها ، وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته ، ومنها ما تقدّم من رفع السماء بغير عمد ، وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى ، والجملتان في محل نصب على الحال أو خبر إن لقوله { ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ } على أن الموصول صفة للمبتدأ ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة ، ولذا قال { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } أي لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ، ولا تمترون في صدقه . ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ } قال الفراء بسطها طولاً وعرضاً . وقال الأصمّ إن المدّ هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه ، وهذا المدّ الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } أي جبالاً ثوابت ، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها ، أي تثبت . والإرساء الثبوت . قال عنترة @ فصرت عارفة لذلك حرّة ترسو إذا نفس الجبانِ تطلع @@ وقال جميل @ أُحبها والذي أرسى قواعِده حتى إذا ظَهرت آياتُه بطنا @@ { وَأَنْهَـٰراً } أي مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق ، أو المراد جعل فيها مجاري الماء { وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده ، أي جعل فيها من كل الثمرات { زوجين اثنين } ، الزوج يطلق على الاثنين ، وعلى الواحد المزاوج لآخر ، والمراد هنا بالزوج الواحد ، ولهذا أكد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين ، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفي ، أي جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين ، إما في اللونية كالبياض والسواد ونحوهما ، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما ، أو في القدر كالصغر والكبر ، أو في الكيفية كالحر والبرد . قال الفراء يعني بالزوجين هنا الذكر والأنثى . والأول أولى { يغشى الليل النهار } أي يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً ، شبه إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها ، وقد سبق تفسير هذه في الأعراف { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي فيما ذكر من مدّ الأرض وإثباتها بالجبال ، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة . وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين . { وَفِى ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـٰوِرٰتٌ } هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات . قيل وفي الكلام حذف ، أي قطع متجاورت ، وغير متجاورات ، كما في قوله { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } النحل 81 أي وتقيكم البرد . قيل والمتجاورات المدن وما كان عامراً ، وغير المتجاورات الصحارى وما كان غير عامر ، وقيل المعنى متجاورات متدانيات ، ترابها واحد وماؤها واحد . وفيها زرع وجنات ، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً ، والبعض طيباً والبعض غير طيب ، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر { وَجَنَّـٰتٍ مّنْ أَعْنَـٰبٍ } والجنات البساتين ، قرأ الجمهور برفع { جنات } على تقدير وفي الأرض جنات ، فهو معطوف على قطع متجاورات ، أو على تقدير وبينها جنات . وقرأ الحسن بالنصب على تقدير وجعل فيها جنات ، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك ، ومثله في قوله سبحانه { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَـٰبٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } الكهف 32 . { صِنْوٰنٌ وَغَيْرُ صِنْوٰنٍ } ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص { وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان } برفع هذه الأربع عطفاً على جنات ، وقرأ الباقون بالجرّ عطفاً على أعناب . وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان . وقرأ الباقون بالكسر ، وهما لغتان . قال أبو عبيدة صنوان جمع صنو ، وهو أن يكون الأصل واحداً ، ثم يتفرع فيصير نخلاً ، ثم يحمل ، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير . قال ابن الأعرابي الصنو المثل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " عم الرجل صنو أبيه " ، فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون . قال في الكشاف والصنوان جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد ، وقيل الصنوان المجتمع ، وغير الصنوان المتفرق . قال النحاس وهو كذلك في اللغة ، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان ، والصنو المثل ، ولا فرق بين التثنية والجمع إلاّ بكسر النون في المثنى ، وبما يقتضيه الإعراب في الجمع . { يُسْقَىٰ بِمَاء وٰحِدٍ } ، قرأ عاصم وابن عامر { يسقى } بالتحتية ، أي يسقى ذلك كله . وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات ، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو ، قال أبو عمرو التأنيث أحسن لقوله { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلأَكُلِ } ولم يقل بعضه . وقرأ حمزة والكسائي " يفضل " بالتحتية كما في قوله { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } الرعد 2 وقرأ الباقون بالنون على تقدير ونحن نفضل . وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه ، وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل ، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً ، وهذا في غاية الجودة ، وهذا ليس بجيد ، وهذا فائق في حسنه ، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلاّ قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه ، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلاّ لسببين إما اختلاف المكان الذي هو المنبت ، أو اختلاف الماء الذي تسقى به ، فإذا كان المكان متجاوراً ، وقطع الأرض متلاصقة ، والماء الذي تسقى به واحداً ، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلاّ تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب ، ولهذا قال الله سبحانه { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي يعلمون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات . وقد أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله { المر } قال أنا الله أرى . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن مجاهد { المر } فواتح يفتتح بها كلامه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله { تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ } قال التوراة والإنجيل { وَٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ٱلْحَقُّ } قال القرآن . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة نحو . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } قال وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عنه في الآية قال يقول لها عمد ولكن لا ترونها يعني الأعماد . وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال السماء مقببة على الأرض مثل القبة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال السماء على أربعة أملاك ، كل زاوية موكل بها ملك . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في قوله { لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } قال الدنيا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } قال يقضيه وحده . وأخرج . ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال الدنيا مسيرة خمسمائة عام ، أربعمائة خراب ، ومائة عمران ، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة . وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقديرات لم يأت عليها دليل يصح . وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال لما خلق الله الأرض قمصت . وقالت أي ربّ ، تجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث ، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان إقرارها كاللحم ترجرج . وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله { يغشى الليل النهار } أي يلبس الليل النهار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبوالشيخ عن ابن عباس في قوله { وَفِى ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـٰوِرٰتٌ } قال يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها ، تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا تخرج ، وهما أرض واحدة ، وماؤها شيء واحد ، ملح أو عذب ، ففضلت إحداهما على الأخرى . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال قرىء " متجاورات " قريب بعضها من بعض . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال الأرض تنبت حلواً ، والأرض تنبت حامضاً ، وهي متجاورات تسقى بماء واحد . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله { صِنْوٰنٌ وَغَيْرُ صِنْوٰنٍ } قال الصنوان ما كان أصله واحداً وهو متفرّق ، { وغير صنوان } التي تنبت وحدها ، وفي لفظ صنوان النخلة في النخلة ملتصقة ، وغير صنوان النخل المتفرق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { صِنْوٰنٌ } قال مجتمع النخل في أصل واحد { وَغَيْرُ صِنْوٰنٍ } قال النخل المتفرّق . وأخرج الترمذي وحسنه ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أبي هريرة ، عن النبي في قوله { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلأَكُلِ } قال " الدقل ، والفارسي ، والحلو ، والحامض " . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال هذا حامض ، وهذا حلو ، وهذا دقل ، وهذا فارسي .