Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 112-119)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } قد قدّمنا أن ضرب مضمن معنى جعل ، حتى تكون { قرية } المفعول الأوّل و { مثلاً } المفعول الثاني ، وإنما تأخرت { قرية } لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها . وقدّمنا أيضاً أنه يجوز أن يكون { ضرب } على بابه غير مضمن ، ويكون { مثلاً } مفعوله الأوّل وقرية بدلاً منه . وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة ، أو المراد قرية غير معينة ؟ بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة ، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " اللّهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام ، والثاني أرجح ، لأن تنكير قرية يفيد ذلك ، ومكة تدخل في هذا العموم البدليّ دخولاً أوّلياً . وأيضاً يكون الوعيد أبلغ ، والمثل أكمل ، وغير مكة مثلها . وعلى فرض إرادتها ، ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها . ثم وصف القرية بأنها { كَانَتْ ءامِنَةً } غير خائفة { مُّطْمَئِنَّةً } غير منزعجة ، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } أي ما يرتزق به أهلها { رَغَدًا } واسعاً { مّن كُلّ مَكَانٍ } من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها { فَكَفَرَتْ } أي كفر أهلها { بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } التي أنعم بها عليهم ، والأنعم جمع نعمة كالأشدّ جمع شدّة . وقيل جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس . وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ } أي أذاق أهلها { لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } سمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال ، وشحوبة اللون ، وسوء الحال ، ما هو كاللباس ، فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة ، وأصلها الذوق بالفم . ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدّة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين إدراك اللمس ، والذوق . روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي - إمام اللغة والأدب - هل يذاق اللباس ؟ فقال له ابن الأعرابي لا بأس أيها النسناس ، هب أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً ؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع ، أو فأذاقها الله طعم الجوع ، فرد عليه ابن الأعرابي . وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف ، لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له ، وهو الجوع والخوف لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة ، فيقولون ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه غيره ، فكانت الاستعارة مجرّدة . ولو قال فكساها كانت مرشحة . قيل وترشيح الاستعارة ، وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة ، إلاّ أن للتجريد ترجيحاً من حيث أنه روعي جانب المستعار له ، فازداد الكلام وضوحاً . وقيل إن أصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار ، فيوضع موضع التعرف والاختبار . ومن ذلك قول الشاعر @ ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها @@ وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفاً على لباس ، وقرأ الباقون بالضم عطفاً على الجوع ، قال الفراء كل الصفات أجريت على القرية إلاّ قوله { يَصْنَعُونَ } تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها . { وَلَقَدْ جَاءهُمْ } يعني أهل مكة { رَسُولٌ مّنْهُمْ } من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه ، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم { فَكَذَّبُوهُ } فيما جاء به { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } النازل بهم من الله سبحانه ، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم { ظَـٰلِمُونَ } لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبديّ ، ولغيرهم بالإضرار بهم وصدّهم عن سبيل الله ، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب . وقيل إن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم ، وقيل القتل يوم بدر . ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكروه من حال أهل القرية المذكورة ، أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها ، وجاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر . والمعنى أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر ، فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة ، واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ولا تعبدون غيره ، أو إن صحّ زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى . وقيل إن الفاء في { فكلوا } داخلة على الأمر بالشكر ، وإنما أدخلت على الأمر بالأكل ، لأن الأكل ذريعة إلى الشكر . { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } كرّر سبحانه ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام ، وفي هذه السورة قطعاً للأعذار ، وإزالة للشبهة ، ثم ذكر الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقد تقدّم الكلام على جميع ما هو مذكور هنا مستوفى . ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة ، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدّم ، فقال { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ } قال الكسائي ، والزجاج " ما " هنا مصدرية . وانتصاب الكذب بـ { لا تقولوا } أي لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم ، ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ، ويجوز أن تكون " ما " موصولة ، والكذب منتصب بـ { تصف } أي لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه { هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } فحذف لفظة فيه لكونه معلوماً ، فيكون قوله { هذا حلال وهذا حرام } بدلاً من الكذب ، ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام ، أو قائلة هذا حلال وهذا حرام ، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضاً بـ { تصف } وتكون " ما " مصدرية ، أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب . وقرىء " الكذب " بضم الكاف والذال والباء على أنه نعت للألسنة ، وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتاً لـ " ما " . وقيل على البدل من " ما " أي ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام ، واللام في { لّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } هي لام العاقبة ، لا لام العرض ، أي فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم ، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } أي افتراء كان { لاَ يُفْلِحُونَ } بنوع من أنواع الفلاح ، وهو الفوز بالمطلوب ، وارتفاع { مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ } على أنه خبر مبتدأ محذوف . قال الزجاج أي متاعهم متاع قليل ، أو هو مبتدأ خبره محذوف ، أي لهم متاع قليل { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يردّون إليه في الآخرة . ثم خصّ محرمات اليهود بالذكر فقال { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } أي حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم { مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } بقولنا { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } الأنعام 146 ، الآية ، و { مِن قَبْلُ } متعلق بـ { قصصنا } أو بـ { حرمنا } { وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ } بذلك التحريم ، بل جزيناهم ببغيهم { وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث فعلوا أسباب ذلك فحرّمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم . ثم بيّن سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ } أي متلبسين بجهالة ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة النساء { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي من بعد عملهم للسوء ، وفيه تأكيد ، فإن " ثم " قد دلت على البعدية ، فأكدها بزيادة ذكر البعدية { وَأَصْلَحُواْ } أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه ، ثم كرّر ذلك تأكيداً وتقريراً فقال { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي من بعد التوبة { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } كثير الغفران ، واسع الرحمة . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } قال يعني مكة . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله . وزاد فقال ألا ترى أنه قال { وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال القرية التي قال الله { كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } هي يثرب . قلت ولا أدري أي دليل دله على هذا التعيين ، ولا أيّ قرينة قامت له على ذلك ، ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله ، وأيّ وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف ، وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صحّ ذلك عن الصادق المصدوق . وصحّ عنه أيضاً أنه قال " والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ } الآية ، قال في البحيرة والسائبة . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال قرأت هذه الآية في سورة النحل { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } إلى آخر الآية ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا . قلت صدق رحمه الله ، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتياً من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية ، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنّة كالمقلدة ، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم ، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير ، فضلوا وأضلوا ، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل @ كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الجائر @@ وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال عسى رجل أن يقول إن الله أمر بكذا ، أو نهى عن كذا ، فيقول الله عزّ وجلّ له كذبت . أو يقول إن الله حرّم كذا أو أحلّ كذا ، فيقول الله له كذبت . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } قال في سورة الأنعام . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة مثله ، وقال حيث يقول { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ } إلى قوله { وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ } الأنعام 146 .