Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 20-26)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات المذكورة ، وهي أنهم { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } من المخلوقات أصلاً ، لا كبيراً ولا صغيراً ، ولا جليلاً ولا حقيراً . { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي وصفتهم أنهم يخلقون ، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره ؟ ففي هذه الآية زيادة بيان ، لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال ، بخلاف قوله { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال . وقراءة الجمهور " والذين تدعون " بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله . وروى أبو بكر عن عاصم ، وروى هبيرة عن حفص { يدعون } بالتحتية ، وهي قراءة يعقوب . ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم فقال { أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء } يعني أن هذه الأصنام أجسادها ميتة ، لا حياة بها أصلاً ، فزيادة { غير أحياء } لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها ، بل لا حياة لهذه أصلاً ، فكيف يعبدونها وهم أفضل منها ؟ لأنهم أحياء { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } الضمير في { يشعرون } للآلهة ، وفي يبعثون للكفار الذين يعبدون الأصنام ، والمعنى ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار ، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم ، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلاً عن الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه ، وقيل يجوز أن يكون الضمير في { يبعثون } للآلهة ، أي وما تشعر هذه لأصنام أيان تبعث ، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحاً معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار ، ويدل على هذا قوله { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الأنبياء 98 . وقيل قد تمّ الكلام عند قوله { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ، فيكون الضميران على هذا للكفار ، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل . وقرأ السلمي " إيان " بكسر الهمزة ، وهما لغتان ، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله . { إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان ، صرح بما هو الحق في نفس الأمر ، وهو وحدانيته سبحانه ، ثم ذكر ما لأجله أصرّ الكفار على شركهم فقال { فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } للوحدانية ، لا يؤثر فيها وعظ ، ولا ينجع فيها تذكير { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن قبول الحق ، متعظمون عن الإذعان للصواب ، مستمرون على الجحد { لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال الخليل { لا جرم } كلمة تحقيق ، ولا تكون إلاّ جواباً ، أي حقاً أن الله يعلم ما يسرّون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك ، وقد مرّ تحقيق الكلام في { لا جرم } { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } أي لا يحبّ هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه ، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدّم . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } أي وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل ماذا أنزل ربكم ؟ أي أيّ شيء أنزل ربكم ؟ أو ماذا الذي أنزل ؟ قيل القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه فيكون هذا القول منه على طريق التهكم وقيل القائل هو من يفد عليه وقيل القائل المسلمون ، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون فقالوا { أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } بالرفع أي ما تدّعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأوّلين ، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا المنزل عليكم أساطير الأوّلين . وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جواباً من المشركين ، وإلاّ لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرّون بالإنزال ، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه وقيل هو كلام مستأنف ، أي ليس ما تدّعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأوّلين وقد جوّز على مقتضى علم النحو نصب " أساطير " وإن لم تقع القراءة به ، ولا بدّ في النصب من التأويل الذي ذكرنا ، أي أنزل على دعواكم أساطير الأوّلين ، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية . والأساطير الأباطيل والترّهات التي يتحدّث الناس بها عن القرون الأولى . وليس من كلام الله في شيء ، ولا مما أنزله الله أصلاً في زعمهم . { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً } أي قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة . لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب . وقيل إن اللام هي لام العاقبة ، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار ، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } القصص 8 . وقيل هي لام الأمر { وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } أي ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم ، لأن من سنّ سنّة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها . وقيل " من " للجنس ، لا للتبعيض أي يحملون كل أوزار الذين يضلونهم ، ومحلّ { بِغَيْرِ عِلْمٍ } النصب على الحال من فاعل { يضلونهم } أي يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه . ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام . وقيل إنه حال من المفعول أي يضلون من لا علم له ، ومثل هذه الآية { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } العنكبوت 13 . وقد تقدّم في الأنعام الكلام على قوله { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } الأنعام 164 { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } أي بئس شيئاً يزرونه ذلك . ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدّمين فقال { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناءً عظيماً ببابل ، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها ، فأهبّ الله الريح ، فخرّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا ، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدّمين الذين يحاولون إلحاق الضرّ بالمحقين . ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق ، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَـٰنَهُمْ } أي أتى أمر الله ، وهو الريح التي أخربت بنيانهم . قال المفسرون أرسل الله ريحاً ، فألقت رأس الصرح في البحر ، وخرّ عليهم الباقي { مّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } قال الزجاج من الأساطين ، والمعنى أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فوقهم } قرأ ابن أبي هريرة ، وابن محيصن " السقف " بضم السين والقاف جميعاً . وقرأ مجاهد بضم السين وسكون القاف ، وقرأ الباقون { السقف } بفتح السين وسكون القاف ، والمعنى أنه سقط عليهم السقف ، لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها . قال ابن الأعرابي ، وإنما قال { من فوقهم } ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته ، والعرب تقول خرّ علينا سقف ، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه ، فجاء بقوله { مّن فَوْقِهِمْ } ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب ، فقال { مّن فَوْقِهِمْ } أي عليهم وقع ، وكانوا تحته فهلكوا ، وما أفلتوا . وقيل إن المراد بالسقف السماء ، أي أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم . وقيل إن هذه الآية تمثيل لهلاكهم والمعنى أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه عليه . وقد اختلف في هؤلاء الذين خرّ عليهم السقف ، فقيل هو نمروذ كما تقدّم ، وقيل إنه بختنصر وأصحابه ، وقيل هم المُقسمون الذين تقدّم ذكرهم في سورة الحجر { وَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي الهلاك { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } به ، بل من حيث أنهم في أمان . ثم بين سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا . فقال { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يُخْزِيهِمْ } بإدخالهم النار ، ويفضحهم بذلك ويهينهم ، وهو معطوف على مقدّر ، أي هذا عذابهم في الدنيا ، { ثم يوم القيامة يخزيهموَيَقُولُ } لهم مع ذلك توبيخاً وتقريعاً { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } كما تزعمون وتدّعون ، قرأ ابن كثير من رواية البزي " شركاي " من دون همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله { ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـٰقُّونَ فِيهِمْ } قرأ نافع بكسر النون على الإضافة ، وقرأ الباقون بفتحها ، أي تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فيهم ، وعلى قراءة نافع تخاصمونني فيهم وتعادونني ، ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { لاَ جَرَمَ } يقول بلى . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك { لاَ جَرَمَ } قال يعني الحق . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال لا كذب . وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان " ، فقال رجل يا رسول الله ، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً ، فقال " إن الله جميل يحبّ الجمال ، الكبر بطر الحق وغمص الناس " وفي ذمّ الكبر ، ومدح التواضع أحاديث كثيرة ، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن النعل ، ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة . والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمص الناس ، فهذا هو الكبر المذموم . وقد ساق صاحب الدرّ المنثور عند تفسيره لهذه الآية أعني قوله سبحانه { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ } أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها ، بل المقام مقام ذكر ماله علاقة بتفسير الكتاب العزيز . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { قَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أن ناساً من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا مرّوا سألوهم فأخبروهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنما هو أساطير الأوّلين . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } الآية يقول يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم . وذلك مثل قوله سبحانه { وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } العنكبوت 13 . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه ، وزاد ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئاً . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن زيد بن أسلم أنه النمروذ أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَـٰنَهُمْ مّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } قال أتاها أمر الله من أصلها { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } والسقف أعالي البيوت فائتكفت بهم بيوتهم ، فأهلكم الله ودمرهم { وَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس { تُشَـٰقُّونَ فِيهِمْ } قال تخالفوني .