Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 70-74)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان ، وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة ، وخصائص القدرة القاهرة ، أتبعه بعجائب خلق الإنسان ، وما فيه من العبر فقال { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ } ولم تكونوا شيئاً { ثُمَّ يَتَوَفَّـٰكُمْ } عند انقضاء آجالكم { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } يقال رذل يرذل رذالة ، والأرذل والرذالة أردأ الشيء وأوضعه . قال النيسابوري واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع أولاها سنّ النشوّ ، وثانيها سنّ الوقوف ، وهو سنّ الشباب ، وثالثها سنّ الانحطاط اليسير ، وهو سنّ الكهولة ، ورابعها سنّ الانحطاط الظاهر ، وهو سنّ الشيخوخة . قيل وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف ، وهو أن يصير بمنزلة الصبيّ الذي لا عقل له وقيل خمس وسبعون سنة ، وقيل تسعون سنة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَـٰهُ أَسْفَلَ سَـٰفِلِينَ } التين 4 - 5 ثم علل سبحانه ردّ من يرده إلى أرذل العمر بقوله { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ } كان قد حصل له { شَيْئاً } من العلم ، لا كثيراً ولا قليلاً ، أو شيئاً من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم . وقيل المراد بالعلم هنا العقل ، وقيل المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك . ثم لما بين سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر ، ذكر طرفاً من أحواله ، لعله يتذكر عند ذلك ، فقال { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلْرّزْقِ } فجعلكم متفاوتين فيه ، فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم ، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلاّ بسؤال الناس والتكفف لهم ، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها ، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال ، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم وقوّة البدن وضعفه ، والحسن والقبح ، والصحة والسقم ، وغير ذلك من الأحوال ، وقيل معنى الآية أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم ، بدليل قوله { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ } أي فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادّي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما ملكت أيمانهم من المماليك { فَهُمُ } أي المالكون والمماليك { فِيهِ } أي في الرزق { سَوَآء } أي لا يردّونه عليهم بحيث يساوونهم ، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على الترادّ ، أي لا يردّونه عليهم رداً مستتبعاً للتساوي ، وإنما يردّون عليهم منه شيئاً يسيراً ، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام ، أي إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ، ولا ترضون بذلك ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء . والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية ، فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم ، فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه ؟ أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة ؟ ذكر معنى هذا ابن جرير ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ مّن شُرَكَاء فِيمَا رَزَقْنَـٰكُمْ } الروم 28 وقيل إن الفاء في { فهم فيه سواء } بمعنى حتى { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ تجحدون } حيث تفعلون ما تفعلون من الشرك ، والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك . وقد قرىء { يجحدون } بالتحتية والفوقية . قال أبو عبيدة ، وأبو حاتم وقراءة الغيبة أولى ، لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطاباً ، لكان ظاهره للمسلمين ، والاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي يشركون به ، فيجحدون نعمته ، ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادّي رزقهم على مماليكم ، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم ، فلا يظنوا أنهم يعطونهم شيئاً ، وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم ، وهم جميعاً في ذلك سواء ، لا مزية لهم على مماليكهم ، فيكون المعطوف عليه المقدّر فعلاً يناسب هذا المعنى ، كأن يقال لا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله . ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } قال المفسرون يعني النساء فإنه خلق حوّاء من ضلع آدم . أو المعنى خلق لكم من جنسكم أزواجاً لتستأنسوا بها ، لأن الجنس يأنس إلى جنسه ، ويستوحش من غير جنسه ، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج ، ولهذا قال { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } الحفدة جمع حافد ، يقال حفد يحفد حفداً وحفوداً إذا أسرع ، فكل من أسرع في الخدمة ، فهو حافد ، قال أبو عبيد الحفد العمل والخدمة . قال الخليل بن أحمد الحفدة عند العرب الخدم ، ومن ذلك قول الشاعر ، وهو الأعشى @ كلفت مجهولنا نوقا يمانية إذ الحداة على أكتافها حفدوا @@ أي الخدم والأعوان . وقال الأزهري قيل الحفدة أولاد الأولاد . وروي عن ابن عباس ، وقيل الأختان . قاله ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو الضحى ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، ومنه قول الشاعر @ فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما تعدّ كثير ولكنها نفس عليّ أبية عيوف لأصهار اللئام قذور @@ وقيل الحفدة الأصهار . قال الأصمعي الختن من كان من قبل المرأة ، كابنها ، وأخيها وما أشبههما . والأصهار منهما جميعاً . يقال أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر . وقيل هم أولاد امرأة الرجل من غيره . وقيل الأولاد الذين يخدمونه . وقيل البنات الخادمات لأبيهنّ . ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد ، لأنه سبحانه امتنّ على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة . فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين ، وإن كان يجوز أن يكون المعنى جعل لكم من أزواجكم بنين ، وجعل لكم حفدة . ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم ، وبالحفدة من يخدم الأب منهم ، أو يراد بالحفدة البنات فقط . ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلاّ إذا كان تقدير الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة . { وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } التي تستطيبونها وتستلذونها ، و " من " للتعبيض لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلاّ في الجنة ، ثم ختم سبحانه الآية بقوله { أَفَبِٱلْبَـٰطِلِ يُؤْمِنُونَ } والاستفهام للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي يكفرون بالله ، فيؤمنون بالباطل ، وفي تقدّم { بالباطل } على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به . والباطل هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع . وقيل الباطل ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما . قرأ الجمهور { يؤمنون } بالتحتية ، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب { وبنعمة الله هم يكفرون } أي ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر . وفي تقديم النعمة ، وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك ، لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد . { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } هو معطوف على { يكفرون } داخل تحت الإنكار التوبيخي ، إنكاراً منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام ، وهي لا تنفع ولا تضرّ ، ولهذا قال { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ شَيْئاً } قال الأخفش إن { شيئاً } بدل من الرزق . وقال الفراء هو منصوب بإيقاع الرزق عليه ، فجعل { رزقاً } مصدراً عاملاً في { شيئاً } ، والأخفش جعله اسماً للرزق . وقيل يجوز أن يكون تأكيداً لقوله { لا يملك } أي لا يملك شيئاً من الملك ، والمعنى أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم رزقاً ، أيّ رزق ، و { من السمٰوات والأرض } صفة لرزق ، أي كائناً منهما ، والضمير في { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } راجع إلى " ما " ، وجمع جمع العقلاء بناءً على زعمهم الباطل ، والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة التملك بطريق من الطرق . فبين سبحانه أنها لا تملك ولا تستطيع . وقيل يجوز أن يكون الضمير في { يستطيعون } للكفار ، أي لا يستطيع هؤلاء الكفار ، مع كونهم أحياء متصرّفين ، فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرّف ؟ ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه ، فقال { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } فإن ضارب المثل يشبه حالاً بحال وقصة بقصة . قال الزجاج لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له ، وكانوا يقولون إن إلٰه العالم أجلّ من أن يعبده الواحد منا ، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك ، وعلل النهي بقوله { إِنَّ ٱللَّهَ } عليم { يَعْلَمْ } ما عليكم من العبادة { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ما في عبادتها من سوء العاقبة ، والتعرّض لعذاب الله سبحانه ، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك ، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختلّ ، ويجوز أن يراد فلا تضربوا الله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك . وقد أخرج ابن جرير عن عليّ في قوله { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } قال خمس وسبعون سنة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال هو الخرف . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال من قرأ القرآن ، لم يرد إلى أرذل العمر ، ثم قرأ { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } . وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس ، قال العالم لا يخرف . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوّذ بالله أن يردّ إلى أرذل العمر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلْرّزْقِ } قال لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال هذا مثل لآلهة الباطل مع الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } قال خلق آدم ، ثم خلق زوجته منه . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله { بَنِينَ وَحَفَدَةً } قال الحفدة الأختان . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال الحفدة الأصهار ، وأخرجا عنه ، قال الحفدة الولد وولد الولد . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال الحفدة بنو البنين . وأخرج ابن جرير ، عن أبي جمرة قال سئل ابن عباس عن قوله { بَنِينَ وَحَفَدَةً } قال من أعابك فقد حفدك ، أما سمعت الشاعر يقول @ حفد الولائد حولهنّ وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال @@ وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ، قال الحفدة بنو امرأة الرجل ، ليسوا منه . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة { أَفَبِٱلْبَـٰطِلِ يُؤْمِنُونَ } قال الشرك . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال هو الشيطان { وبنعمة الله } قال محمد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } الآية ، قال هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها { رِزْقًا مّنَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } ولا خيراً ولا حياة ولا نشوراً { فَلاَ تَضْرِبُواْ لله ٱلاْمْثَالَ } فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } يعني اتخاذهم الأصنام . يقول لا تجعلوا معي إلهاً غيري ، فإنه لا إلٰه غيري .