Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 80-83)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { والله جعل لكم } معطوف على ما قبله . وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان ، ومن تعديد نعم الله عليه ، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع . وهو بمعنى مسكون ، أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة . وهذه نعمة ، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك ، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ ٱلأَنْعَـٰمِ بُيُوتًا } لما ذكر سبحانه بيوت المدن ، وهي التي للإقامة الطويلة ، عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة ، أي جعل لكم من جلود الأنعام ، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب { تَسْتَخِفُّونَهَا } أي يخفّ عليكم حملها في الأسفار وغيرها ، ولهذا قال { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } والظعن بفتح العين وسكونها ، وقرىء بهما سير أهل البادية للانتجاع والتحوّل من موضع إلى موضع ، ومنه قول عنترة @ ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببيتهم الغراب الأبقع @@ والظعن الهودج أيضاً { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـٰثاً } معطوف على { جعل } أي وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها . والأنعام تعمّ الإبل والبقر والغنم كما تقدّم . والأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والأشعار للمعز ، وهي من جملة الغنم ، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة ، أعني الإبل ، ونوعي الغنم ، والأثاث متاع البيت ، وأصله الكثرة والاجتماع ، ومنه شعر أثيث ، أي كثير مجتمع ، قال الشاعر @ وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل @@ قال الخليل أثاثاً ، أي منضماً بعضه إلى بعض ، من أثّ إذا أكثر ، قال الفراء لا واحد له ، والمتاع ما يتمتع به بأنواع التمتع ، وعلى قول أبي زيد الأنصاري إن الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع ، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام ، وقيل إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء ، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به ، ومعنى { إِلَىٰ حِينٍ } إلى أن تقضوا أوطاركم منه ، أو إلى أن يبلى ويفنى ، أو إلى الموت ، أو إلى القيامة . ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام ، أو أبنية يستظل بها لفقر ، أو لعارض آخر ، فيحتاج إلى أن يستظلّ بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك ، نبه سبحانه على ذلك فقال { وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلاً } أي أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة ، والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظلّ . ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله ، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحرّ والبرد ، نبه سبحانه على ذلك فقال { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَـٰناً } وهي جمع كنّ وهو ما يستكنّ به من المطر ، وهي هنا الغيران في الجبال ، جعلها الله سبحانه عدّة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ، ويعتزلون عن الخلق فيها { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } جمع سربال ، وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها . قال الزجاج كل ما لبسته فهو سربال . ومعنى { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } تدفع عنكم ضرر الحرّ ، وخصّ الحرّ ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر ، لأن ما وقى من الحرّ وقى من البرد . ووجه تخصيص الحرّ بالذكر أن الوقاية منه كانت أهمّ عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحرّ في بلادهم { وَسَرٰبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } وهي الدروع والجواشن ، يتقون بها الطعن والضرب والرمي . والمعنى أنها تقيهم البأس الذي يصل من بعضهم إلى بعض في الحرب . { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي مثل ذلك الإتمام البالغ يتمّ نعمته عليكم ، فإنه سبحانه قد منّ على عباده بصنوف النعم المذكورة ها هنا وبغيرها ، وهو بفضله وإحسانه سيتمّ لهم نعمة الدين والدنيا . { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } إرادة أن تسلموا ، فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلاّ الإسلام والانقياد للحق . وقرأ ابن محيصن ، وحميد " تتم نعمته " بتاءين فوقيتين ، على أن فاعله نعمته ، وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة " تسلمون " بفتح التاء واللام من السلامة من الجراح ، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام . قال أبو عبيد والاختيار قراءة العامة ، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح . وقيل الخطاب لأهل مكة أي لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية ، والأولى الحمل على العموم ، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر . { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } أي إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به ، فقد تمهد عذرك ، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم { المبين } أي الواضح ، وليس عليك غير ذلك ، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له . وجملة { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } استئناف لبيان توليهم ، أي هم يعرفون نعمة الله التي عدّدها ، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه ، ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة ، حيث يقولون هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام . وحيث يقولون إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم ، وأيضاً كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الربّ سبحانه ، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها . وقيل نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ، ثم ينكرون نبوّته { وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } أي الجاحدون لنعم الله ، أو الكافرون بالله . وعبر هنا بالأكثر عن الكلّ ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم ، أو أراد كفر الجحود ، ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر بعضهم كفر جهل ، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته ، ومثل هذه الآية قوله تعالى { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } النمل 14 . وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { سكنا } قال تسكنون فيها . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي نحوه قال { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ ٱلأَنْعَـٰمِ بُيُوتًا } وهي خيام العرب { تَسْتَخِفُّونَهَا } يقول في الحمل { وَمَتَـٰعاً } يقول بلاغاً { إِلَىٰ حِينٍ } قال إلى الموت . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } قال بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة ، وفي قوله { وَأَوْبَارِهَا } قال الإبل { وَأَشْعَارِهَا } قال الغنم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { أَثَاثاً } قال الأثاث المتاع . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال الأثاث المال { وَمَتَـٰعاً إِلَىٰ حِينٍ } يقول تنتفعون به إلى حين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلاً } قال من الشجر ومن غيرها { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَـٰناً } قال غارات يسكن فيها { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } قال من القطن والكتان والصوف { وَسَرٰبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } من الحديد { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } قال يعني الثياب ، { وَسَرٰبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } قال يعني الدروع والسلاح { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } يعني من الجراحات ، وكان ابن عباس يقرؤها " تسلمون " كما قدّمنا ، وإسناده ضعيف .