Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 91-96)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

خصّ سبحانه من جملة المأمورات التي تضمنها قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } الوفاء بالعهد ، فقال { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } وظاهره العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره . وخصّ هذا العهد المذكور في هذه الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله . ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود ، لم يكن ذلك موجباً لقصره على السبب ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، وفسره بعضهم باليمين ، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالأَيمان بعده حيث قال سبحانه { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } أي بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها ، وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالأَيمان المؤكدة ، لا بغيرها مما لا تأكيد فيه . فإن تحريم النقض يتناول الجميع ، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يوكد منها . يقال وكد وأكد توكيداً وتأكيداً ، وهما لغتان . وقال الزجاج الأصل الواو ، والهمزة بدل منها ، وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم فقال " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " ، حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها ، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، ويخصّ أيضاً من هذا العموم يمين اللغو ، لقوله سبحانه { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ } البقرة 225 ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو . وقد تقدّم بسط الكلام على الأَيمان في البقرة . { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } أي شهيداً . وقيل حافظاً . وقيل ضامناً . وقيل رقيباً لأن الكفيل يراعي حال المكفول به . وقيل إن توكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً . وحكى القرطبي عن ابن عمر أن التوكيد هو أن يحلف مرتين ، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فيجازيكم بحسب ذلك ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ، وفيه ترغيب وترهيب . ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض ، فقال { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } أي لا تكونوا فيما تصنعون من النقض ، بعد التوكيد كالتي نقضت غزلها ، أي ما غزلته { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } أي من بعد إبرام الغزل وإحكامه ، وهو متعلق بـ { نقضت } { أَنكَـٰثًا } جمع نكث بكسر النون ، ما ينكث فتله . قال الزجاج انتصب { أنكاثاً } على المصدر لأن معنى نقضت نكثت . وردّ بأن { أنكاثاً } ليس بمصدر ، وإنما هو جمع كما ذكرنا . وقال الواحدي هو منصوب على أنه مفعول ثانٍ كما تقول كسرته أقطاعاً وأجزاء ، أي جعلته أقطاعاً وأجزاء . ويحتمل أن يكون حالاً . قال ابن قتيبة هذه الآية متعلقة بما قبلها ، والتقدير وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأَيمان ، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً . وجملة { تَتَّخِذُونَ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } في محل نصب على الحال . قال الجوهري والدخل المكر والخديعة ، وقال أبو عبيدة كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل ، وقيل الدخل ما أدخل في الشيء على فساده . وقال الزجاج غشاً وغلاً { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي بأن تكون جماعة هي أربى من جماعة ، أي أكثر عدداً منها وأوفر مالاً . يقال ربا الشيء يربو إذا كثر ، قال الفراء المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو لقلتكم وكثرتهم ، وقد عزرتموهم بالأَيمان . قيل وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم ، نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم . وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغترّوا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم . { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } أي يختبركم بكونكم أكثر وأوفر ، لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء ، أم تنقضون اغتراراً بالكثرة ؟ فالضمير في { به } راجع إلى مضمون جملة { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ، ليعلم ما تصنعون ، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم . { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيوضح الحق والمحقين ، ويرفع درجاتهم ، ويبين الباطل والمبطلين ، فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه . وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل . أو يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار . ثم بيّن سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً } متفقة على الحق { وَلَـٰكِنِ } بحكم الإلهية { يُضِلُّ مَن يَشَاء } بخذلانه إياهم عدلاً منه فيهم { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } بتوفيقه إياهم فضلاً منه عليهم { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } الأنبياء 23 . ولهذا قال { ولتسألن عما كنتم تعملون } من الأعمال في الدنيا ، واللام في { وليبيننّ لكم } وفي { ولتسألنّ } هما الموطئتان للقسم . ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الأيمان ، نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة ، فقال { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } وهي أيمان البيعة . قال الواحدي قال المفسرون وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين . واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } من المبالغة ، وبما في قوله { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوء بِمَا صَدَدتُّمْ } لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّوا غيرهم عن الدخول في الإسلام . وعلى تسليم أن هذه الأيمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي سبب نزول هذه الآية ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقال جماعة من المفسرين إن هذا تكرير لما قبله ، لقصد التأكيد والتقرير . ومعنى { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزلّ قدم من اتخذ يمينه دخلاً عن محجة الحق { بعد ثبوتها } عليها ورسوخها فيها . قيل وأفرد القدم للإيذان بأن زلل قدم واحد ، أيّ قدم كانت عزّت أو هانت محذور عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ وهذا استعارة للمستقيم الحال ، يقع في شرّ عظيم ويسقط فيه ، لأن القدم إذا زلت ، نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرّ . ويقال لمن أخطأ في شيء زلت به قدمه ، ومنه قول الشاعر @ تداركتما عبساً وقد ثلّ عرشها وذبيان قد زلت بأقدامها النعل @@ { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوء بِمَا صَدَدتُّمْ } أي تذوقوا العذاب السيء في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما بما صددتم { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي بسبب صدودكم أنتم عن سبيل الله ، وهو الإسلام ، أو بسبب صدّكم لغيركم عن الإسلام ، فإن من نقض البيعة وارتدّ ، اقتدى به غيره في ذلك ، فكان فعله سنّة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها ولهذا قال { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي متبالغ في العظم ، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا . ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي لا تأخذوا في مقابلة عهدكم عوضاً يسيراً حقيراً . وكل عرض دنيوي وإن كان في الصورة كثيراً ، فهو لكونه ذاهباً زائلاً يسير ، ولهذا ذكر سبحانه بعد تقليل عرض الدنيا خيرية ما عند الله فقال { إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي ما عنده من النصر في الدنيا والغنائم والرزق الواسع ، وما عنده في الآخرية من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع هو خير لهم . ثم علل النهي عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً ، وأن ما عند الله هو خير لهم بقوله { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز بين الأشياء . ثم ذكر دليلاً قاطعاً على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } ومعلوم لكل عاقل أن ما ينفد ويزول وإن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير ، وما كان يبقى ولا يزول فهو كثير جليل . أما نعيم الآخرة فظاهر ، وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان زائلاً ، لكنه لما كان متصلاً بنعيم الآخرة ، كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع ، ثم قال { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } اللام هي الموطئة ، أي لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاقّ التكليف وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات . قيل وإنما خصّ أحسن أعمالهم لأن ما عداه وهو الحسن مباح ، والجزاء إنما يكون على الطاعة ، وقيل المعنى ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم ، كقوله { مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } الأنعام 160 ، أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأعلى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل ، لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن ، والأحسن بالأحسن ، كذا قيل . قرأ عاصم وابن كثير { لنجزين } بالنون . وقرأ الباقون بالياء التحتية . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر في قوله { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } قال أنزلت هذه الآية في بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنّ من أسلم بايع على الإسلام ، فقال { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ … } الآية ، فلا يحملنكم قلة محمد وأصحابه ، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يقول بعد تغليظها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج ابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ، أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف ، فنزلت فيها هذه الآية { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص مثله . وفي الروايتين جميعاً أنها كانت مجنونة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي في سبب نزول الآية ، قال كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة كانت تغزل فإذا أبرمت غزلها نقضته . وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير معناه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } قال ناس أكثر من ناس . وأخرجوا عن مجاهد في الآية قال كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ ، فنهوا عن ذلك .