Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 1-3)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } هو مصدر سبح ، يقال سبح يسبح تسبيحاً وسبحاناً ، مثل كفر اليمين تكفيراً وكفراناً ، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص . وقال سيبويه العامل فيه فعل لا من لفظه ، والتقدير أنزه الله تنزيهاً ، فوقع سبحان مكان تنزيهاً ، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء وقيل هو علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان ، ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسدّه ، وقد قدّمنا في قوله { سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } البقرة 32 . طرفاً من الكلام المتعلق بسبحان . والإسراء قيل هو سير الليل ، يقال سرى وأسرى ، كسقى وأسقى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله @ حي النضير ربة الخدر أسرت إليّ ولم تكن تسري @@ وقيل هو سير أوّل الليل خاصة ، وإذا كان الإسراء لا يكون إلاّ في الليل فلا بدّ للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة ، فقيل أراد بقوله { ليلاً } تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة . ووجه دلالة { ليلاً } على تقليل المدّة ما فيه من التنكير الدالّ على البعضية ، بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً . وقد استدلّ صاحب الكشاف على إفادة ليلاً للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل . وقال الزجاج معنى { أسرى بعبده ليلاً } سير عبده ، يعني محمداً ليلاً ، وعلى هذا فيكون معنى أسرى معنى سير ، فيكون للتقيد بالليل فائدة ، وقال { بعبده } ولم يقل بنبيه أو رسوله ، أو بمحمد تشريفاً له صلى الله عليه وسلم . قال أهل العلم لو كان غير هذا الاسم أشرف منه ، لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم ، والحالة العلية @ لا تدعني إلا بياعبدها فإنه أشرف أسمائي ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها كأن أسماء أضحت بعض أسمائي @@ { مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } قال الحسن وقتادة يعني المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن . وقال عامة المفسرين أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانىء ، فحملوا المسجد الحرام على مكة ، أو الحرام ، لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام ، أو لأن الحرم كله مسجد . ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله إليها فقال { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلاْقْصَى } وهو بيت المقدس . وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، ولم يكن حينئذٍ وراءه مسجد ، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله { ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين ، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة . وفي { باركنا } بعد قوله { أسرى } التفات من الغيبة إلى التكلم . ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال { لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا } أي ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل { إنَّهُ } سبحانه { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } بكل مسموع ، ومن جملة ذلك قول رسوله صلى الله عليه وسلم { ٱلبَصِيرُ } بكل مبصر ، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله . وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم مع روحه ، أو بروحه فقط ؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأوّل ، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ، ومعاوية ، والحسن ، وابن إسحاق ، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان ، وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس ، وإلى السماء بالروح ، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلاْقْصَى } ، فجعله غاية للإسراء بذاته صلى الله عليه وسلم . فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء ، وقع بذاته لذكره ، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس ، ثم إلى السموات ، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلاّ مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء ، ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط ، وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتدّ من ارتدّ ممن لم يشرح بالإيمان صدراً ، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد ، بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءيَا ٱلَّتِى أَرَيْنَـٰكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } الإسراء 60 فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء فالتصريح الواقع هنا بقوله { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين ، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب البراق ؟ وكيف يصح وصف الروح بالركوب ؟ وهكذا كيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه بأنه كان عند أن أسري به بين النائم واليقظان ؟ وقد اختلف أيضاً في تاريخ الإسراء ، فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة . وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام . ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين ، وقيل بثلاث وقيل بأربع ، ولم تفرض الصلاة إلاّ ليلة الإسراء . وقد استدل بهذا ابن عبد البرّ على ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن الزهري . وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهري في رواية عنه ، وكذلك الحربي فإنه قال أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة . وقال ابن القاسم في تاريخه كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً . قال ابن عبد البرّ لا أعلم أحداً من أهل السير قال بمثل هذا . وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام ، وروي عنه أنه قال كان قبل مبعثه بخمس سنين . وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة . { وَءاتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ } أي التوراة ، قيل والمعنى كرّمنا محمداً بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب { وَجَعَلْنَـٰهُ } أي ذلك الكتاب وقيل موسى { هُدًى لّبَنِى إِسْرٰءيلَ } يهتدون به { أَن لا تَتَّخِذُواْ } . قرأ أبو عمر بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية أي لئلا يتخذوا . والمعنى آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا { مِن دُونِى وَكِيلاً } قال الفراء أي كفيلاً بأمورهم ، وروي عنه أنه قال كافياً وقيل أي متوكلون عليه في أمورهم ، وقيل شريكاً ، ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور . { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نصب على الاختصاص أو النداء ، ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق ، ويجوز أن يكون المفعول الأوّل لقوله { أن لا تتخذوا } أي لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً ، كقوله { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ وَٱلنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا } آل عمران 80 . وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من فاعل { تتخذوا } ، وقرأ مجاهد بفتح الذال ، وقرأ زيد بن ثابت بكسرها ، والمراد بالذرية هنا جميع من في الأرض ، لأنهم من ذرية من كان في السفينة وقيل موسى وقومه من بني إسرائيل . وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص ، والرفع على البدل وعلى الخبر ، فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين ، وأما على جعل النصب على أن { ذرية } هي المفعول الأوّل لقوله { لا تتخذوا } ، فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم . { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } أي نوحاً ، وصفه الله بكثرة الشكر وجعله كالعلة لما قبله إيذاناً بكون الشكر من أعظم أسباب الخير ، ومن أفضل الطاعات حثاً لذريته على شكر الله سبحانه . وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة . وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال أسري برسول الله إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة . وأخرج البيهقي عن عروة مثله . وأخرج البيهقي أيضاً عن السدّي قال أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مهاجره بستة عشر شهراً . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله { ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } قال أنبتنا حوله الشجر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَءاتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْرٰءيلَ } قال جعله الله هدى يخرجهم من الظلمات إلى النور وجعله رحمة لهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً } قال شريكاً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } قال هو على النداء . يا ذرية من حملنا مع نوح . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { ذرية من حملنا مع نوح } ، ما كان مع نوح إلاّ أربعة أولاد حام ، وسام ، ويافث ، وكوش ، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق " واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها ، وليس في ذلك كثير فائدة ، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث ، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، وهو مبحث آخر ، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز ، وذكر أسباب النزول ، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية ، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة .