Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 4-11)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ } أي أعلمنا وأخبرنا ، أو حكمنا وأتممنا ، وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه وقيل أوحينا ، ويدل عليه قوله إلى بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى الإعلام والإخبار لقال قضينا بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى حكمنا لقال على بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى أتممنا لقال لبني إسرائيل ، والمراد بالكتاب التوراة ، ويكون إنزالها على نبيهم موسى كإنزالها عليهم لكونهم قومه وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ . وقرأ أبو العالية وسعيد بن جبير في الكتب . وقرأ عيسى الثقفي لتفسدنّ في الأرض بفتح المثناة ، ومعنى هذه القراءة قريب من معنى قراءة الجمهور ، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا في نفوسهم ، والمراد بالفساد مخالفة ما شرعه الله لهم في التوراة ، والمراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس وقيل أرض مصر ، واللام في { لتفسدن } جواب قسم محذوف . قال النيسابوري أو أجري القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل وأقسمنا لتفسدنّ . وانتصاب { مَّرَّتَيْنِ } على أنه صفة مصدر محذوف ، أو على أنه في نفسه مصدر عمل فيه ما هو من غير جنسه ، والمرة الأولى قتل شعياء أو حبس أرمياء ، أو مخالفة أحكام التوراة ، والثانية قتل يحيـى بن زكريا والعزم على قتل عيسى { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } هذه اللام كاللام التي قبلها ، أي لتستكبرنّ عن طاعة الله ولتستعلنّ على الناس بالظلم والبغي مجاوزين للحد في ذلك { فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـٰهُمَا } أي أولى المرتين المذكورتين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي قوّة في الحروب وبطش عند اللقاء . قيل هو بختنصر وجنوده وقيل جالوت وقيل جند من فارس وقيل جند من بابل { فَجَاسُواْ خِلَـٰلَ ٱلدّيَارِ } أي عاثوا وتردّدوا ، يقال جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى ، ذكره ابن غرير والقتيبي . قال الزجاج معناه طافوا خلال الديار ، هل بقي أحد لم يقتلوه ؟ قال والجوس طلب الشيء باستقصاء . قال الجوهري الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار ، أي تخللوها ، كما يجوس الرجل للأخبار ، أي يطلبها ، وكذا قال أبو عبيدة . وقال ابن جرير معنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين . وقال الفراء معناه قتلوهم بين بيوتهم وأنشد لحسان @ وَمِنَّا الذي لاقي بسَيْفٍ مُحَمَّدٍ فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْض العَسِاكِرِ @@ وقال قطرب معناه نزلوا . وأنشد قول الشاعر @ فجسنا ديارهم عنوة وأُبنَا بساداتهم موثقينا @@ وقرأ ابن عباس فحاسوا بالحاء المهملة . قال أبو زيد الحوس ، والجوس ، والعوس ، والهوس الطوف بالليل ، وقيل الطوف بالليل هو الجوسان محركاً ، كذا قال أبو عبيدة . وقرىء خلل الديار . ومعناه معنى خلال وهو وسط الديار { وَكَانَ } ذلك { وَعْدًا مَّفْعُولاً } أي كائناً لا محالة . { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } أي الدولة والغلبة والرجعة ، وذلك عند توبتهم . قيل وذلك حين قتل داود جالوت ، وقيل حين قتل بختنصر { وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ } بعد نهب أموالكم وسبي أبنائكم ، حتى عاد أمركم كما كان . { وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } قال أبو عبيدة النفير العدد من الرجال فالمعنى أكثر رجالاً من عدوكم ، والنفير من ينفر مع الرجل من عشيرته ، يقال نفير ونافر مثل قدير وقدر ، ويجوز أن يكون النفير جمع نفر { إِنْ أَحْسَنتُمْ } أي أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم ، { أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ } لأن ثواب ذلك عائد إليكم { وَإِنْ أَسَأْتُمْ } أفعالكم وأقوالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم ، { فَلَهَا } أي فعليها . ومثله قول الشاعر @ فخر صريعاً لليدين وللفم @@ أي على اليدين وعلى الفم . قال ابن جرير اللام بمعنى إلى ، أي فإليها ترجع الإساءة كقوله تعالى { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } الزلزلة 5 أي إليها وقيل المعنى فلها الجزاء أو العقاب . وقال الحسين بن الفضل فلها ربّ يغفر الإساءة ، وهذا الخطاب قيل هو لبني إسرائيل الملابثين لما ذكر في هذه الآيات ، وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعناه إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك ، وقيل هو خطاب لمشركي قريش . { فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلآخِرَةِ } أي حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة ، والمرة الآخرة هي قتلهم يحيـى بن زكريا كما سبق ، وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل ، واسمه فيه يوحنا ، قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله ، واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة . وقال ابن جرير هيردوس ، وجواب { إذا } محذوف ، تقديره بعثناهم ، لدلالة جواب " إذا " الأولى عليه ، { يسؤووا وُجُوهَكُمْ } متعلق بهذا الجواب المحذوف أي ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة ، وتتبين في وجوهكم الكآبة ، وقيل المراد بالوجوه السادة منهم . وقرأ الكسائي لنسوء بالنون ، على أن الضمير لله سبحانه . وقرأ أبيّ لنسوءن بنون التأكيد . وقرأ أبو بكر ، والأعمش ، وابن وثاب ، وحمزة ، وابن عامر " ليسوء " بالتحتية والإفراد . قال الزجاج كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته ، والضمير لله أو الوعد { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ } معطوف على { ليسوءوا } . { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ } أي يدمروا ويهلكوا ، وقال قطرب يهدموا ، ومنه قول الشاعر @ فما الناسُ إلاّ عامِلان فَعَاملٌ يُتَبِّر ما يَبْنِي ، وآخر رافع @@ وقرأ الباقون بالتحتية ، وضم الهمزة ، وإثبات واو بعدها على أن الفاعل عباد لنا { مَا عَلَوْاْ } أي ما غلبوا عليه من بلادكم ، أو مدة علوهم { تَتْبِيرًا } أي تدميراً ، ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر . { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم في المرة الثانية . { وَإِنْ عُدتُّمْ } للثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم . قال أهل السير ثم إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد من بعثه في التوراة والإنجيل ، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب ، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة . { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا } وهو المحبس ، فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول . والمعنى أنهم محبوسون في جهنم لا يتخلصون عنها أبداً . قال الجوهري حصره يحصره حصراً ضيق عليه وأحاط به وقيل فراشاً ومهاداً ، - وأراد على هذا - بالحصير الحصير الذي يفرشه الناس { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } يعني القرآن يهدي الناس الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق وهي ملة الإسلام ، فالتي هي أقوم صفة لموصوف محذوف وهي الطريق . وقال الزجاج للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد الله والإيمان برسله ، وكذا قال الفراء . { وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قرأ حمزة والكسائي يبشر بفتح الياء وضم الشين . وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الشين من التبشير أي يبشر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلاً وعاجلاً للمؤمنين { ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } التي أرشد إلى عملها القرآن { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } أي بأنّ لهم . { وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } وأحكامها المبينة في القرآن { أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وهو عذاب النار ، وهذه الجملة معطوفة على جملة يبشر بتقدير يخبر ، أي ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة وقيل معطوفة على قوله { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } ، ويراد بالتبشير مطلق الإخبار ، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي ، ويكون الكلام مشتملاً على تبشير المؤمنين ببشارتين الأولى مالهم من الثواب ، والثانية ما لأعدائهم من العقاب . { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَـٰنُ بِٱلشَّرّ } المراد بالإنسان هنا الجنس ، لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده ، وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له { دُعَاءهُ بِٱلْخَيْرِ } أي مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله كطلب العافية والرزق ونحوهما ، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشرّ هلك ، لكنه لم يستجب تفضلاً منه ورحمة ، ومثل ذلك { وَلَوْ يُعَجّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ } يونس 11 . وقد تقدّم وقيل المراد بالإنسان هنا القائل هذه المقالة هو الكافر يدعو لنفسه بالشرّ ، وهو استعجال العذاب دعاءه بالخير كقول القائل { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الأنفال 32 . وقيل هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح ، وحذفت الواو من { ويدع الإنسان } في رسم المصحف لعدم التلفظ بها لوقوع اللام الساكنة بعدها كقوله { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } العلق 18 و { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَـٰطِلَ } الشورى 24 و { وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } النساء 146 ونحو ذلك . { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ عَجُولاً } أي مطبوعاً على العجلة ، ومن عجلته أنه يسأل الشر كما يسأل الخير وقيل إشارته إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن تكمل فيه الروح ، والمناسب للسياق هو الأوّل . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ } قال أعلمناهم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال أخبرناهم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً { وقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ } قضينا عليهم . وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله { لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلاْرْضِ مَرَّتَيْنِ } قال الأولى قتل زكريا ، والآخرة قتل يحيـى . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية ، قال كان أوّل الفساد قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم ، فذلك قوله { ثم رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال بعث الله عليهم في الأولى جالوت ، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر ، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { فَجَاسُواْ } قال فمشوا . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال { تَتْبِيرًا } تدميراً . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } قال كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } قال فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون . واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين ، وفي تعيين من سلطه الله عليهم ، وفي كيفية الانتقام منهم ، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا } قال سجنا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه ، قال معنى حصيراً جعل الله مأواهم فيها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { حَصِيرًا } قال فراشاً ومهاداً . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } قال للتي هي أصوب . وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً " إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ " بالتخفيف . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَـٰنُ بِٱلشَّرّ دُعَاءهُ بِٱلْخَيْرِ } يعني قول الإنسان اللهم العنه واغضب عليه . وأخرج ابن جرير عنه في قوله { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ عَجُولاً } قال ضجراً ، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال أوّل ما خلق الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه ، فلما كان بعد العصر قال يا ربّ أعجل قبل الليل ، فذلك قوله { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ عَجُولاً } .