Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 49-55)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما فرغ سبحانه من حكاية شبه القوم في النبوّات حكى شبهتهم في أمر المعاد فقال { وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً وَرُفَـٰتاً } والاستفهام ، للاستنكار والاستبعاد . وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم ، واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر ، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ، ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع ، فأجاب سبحانه عنهم بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمر ممكن ، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد ، فهو كقول القائل أتطمع فيّ وأنا ابن فلان ؟ فيقول كن ابن السلطان أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي . والرفات ما تكسر وبلى من كلّ شيء كالفتات والحطام والرضاض ، قاله أبو عبيدة ، والكسائي ، والفراء ، والأخفش . تقول منه رفت الشيء رفتاً ، أي حطم فهو مرفوت . وقيل الرفات الغبار ، وقيل التراب { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } كرّر الاستفهام الدالّ على الاستنكار والاستبعاد تأكيداً وتقريراً ، والعامل في " إذا " هو ما دلّ عليه { لمبعوثون } ، لا هو نفسه ، لأن ما بعد إنّ والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها ، والتقدير { ءإذا كنا عظاماً ورفاتاً } نبعث { ءإنا لمبعوثون } ، وانتصاب { خلقاً } على المصدرية من غير لفظه ، أو على الحال ، أي مخلوقين ، و { جديداً } صفة له . { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً . أَوْ خَلْقًا } آخر { مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } قال ابن جرير معناه إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم على ذلك ، وقال علي بن عيسى معناه إنكم لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله عزّ وجلّ إذا أرادكم . إلاّ أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام وقيل معناه لو كنتم حجارة أو حديداً لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم ، قال النحاس وهذا قول حسن ، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديداً ، وإنما المعنى أنهم قد أقرّوا بخالقهم وأنكروا البعث ، فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم ، فلو كنتم حجارة أو حديداً لبعثتم كما خلقتم أوّل مرة . قلت وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا . { أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } أي يعظم عندكم مما هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم مبعوثون لا محالة ، وقيل المراد به السمٰوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس . وقال جماعة من الصحابة والتابعين المراد به الموت ، لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه . والمعنى لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم . ولا يخفى ما في هذا من البعد ، فإن معنى الآية الترقي من الحجارة إلى الحديد ، ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه ، والموت نفسه ليس بشيء يعقل ويحسّ حتى يقع الترقي من الحديد إليه { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } إذا كنا عظاماً ورفاتاً ، أو حجارة أو حديداً مع ما بين الحالتين من التفاوت . { قُلِ ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي يعيدكم الذي خلقكم واخترعكم عند ابتداء خلقكم من غير مثال سابق ولا صورة متقدّمة { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ } أي يحركونها استهزاءً ، يقال نغض رأسه ينغض وينغض وينغض نغضاً ونغوضاً أي تحرك ، وأنغض رأسه حركه كالمتعجب ، ومنه قول الراجز @ أنغض نحوي رأسه وأقنعا @@ وقول الراجز الآخر @ ونغضت من هرم أسنانها @@ وقال آخر @ لما رأتني أنغضت لي رأسها @@ { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ } أي البعث والإعادة استهزاء منهم وسخرية { قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا } أي هو قريب ، لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع ، ومثله { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } الأحزاب 63 ، وكل ما هو آتٍ قريب { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } الظرف منتصب بفعل مضمر أي اذكر ، أو بدل من { قريباً } ، أو التقدير يوم يدعوكم كان ما كان ، الدعاء النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق ، وقيل هو الصيحة التي تسمعونها ، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي منقادين له ، حامدين لما فعله بكم ، فهو في محل نصب على الحال . وقيل المعنى فتستجيبون والحمد لله كما قال الشاعر @ وإني بحمد الله لا ثوب فاخر لبست ولا من غدرة أتقنع @@ وقد روي أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون سبحانك وبحمدك وقيل المراد بالدعاء هنا البعث ، وبالاستجابة أنهم يبعثون ، فالمعنى يوم يبعثكم فتبعثون منقادين { وَتَظُنُّونَ إِن لبثتم إِلاَّ قَلِيلاً } أي تظنون عند البعث أنكم ما لبثتم في قبوركم إلاّ زمناً قليلاً ، وقيل بين النفختين ، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين ، وذلك أربعون عاماً ينامون فيها ، فلذلك { قَالُواْ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } يۤس 52 ، وقيل إن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلّت حين رأوا يوم القيامة ، فقالوا هذه المقالة . { وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين أن يقولو عند محاورتهم للمشركين الكلمة التي هي أحسن من غيرها من الكلام الحسن كقوله سبحانه { وَلاَ تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } العنكبوت 46 . وقوله { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } طه 44 لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } الأنعام 108 . وهذا كان قبل نزول آية السيف ، وقيل المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله وينهوا عما نهى عنه ، وقيل هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم خاصة ، والأوّل أولى كما يشهد به السبب الذي سنذكره إن شاء الله { إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغراء . قال اليزيدي يقال نزغ بيننا أي أفسد . وقال غيره النزغ الإغراء { إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلإِنْسَـٰنِ عَدُوّا مُّبِينًا } أي متظاهراً بالعداوة مكاشفاً بها ، وهو تعليل لما قبله ، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة . { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } قيل هذا خطاب للمشركين . والمعنى إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم عن الشرك فيعذبكم ، وقيل هو خطاب للمؤمنين أي { إن يشأ يرحمكم } بأن يحفظكم من الكفار { أو إن يشأ يعذبكم } بتسليطهم عليكم وقيل إن هذا تفسير لكلمة { التي هي أحسن } { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي ما وكلناك في منعهم من الكفر ، وقسرهم على الإيمان وقيل ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم ، ومنه قول الشاعر @ ذكرت أبا أروى فبتّ كأنني بردّ الأمور الماضيات وكيل @@ أي كفيل . { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } أعلم بهم ذاتاً وحالاً واستحقاقاً ، وهو أعمّ من قوله { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } لأن هذا يشمل كل ما في السموات والأرض من مخلوقاته ، وذاك خاص ببني آدم أو ببعضهم ، وهذا كالتوطئة لقوله { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي إن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة وبمن دونه ، وبمن يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائله وفواضله . وقد تقدّم هذا في البقرة . وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وموسى كليماً ، وجعل عيسى كلمته وروحه ، وجعل لسليمان ملكاً عظيماً ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وجعله سيد ولد آدم . وفي هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتفاع درجته عند ربه عزّ وجلّ ، ثم ذكر ما فضل به داود ، فقال { وَءاتَيْنَا داود زبورا } أي كتاباً مزبوراً . قال الزجاج أي فلا تنكروا تفضيل محمد وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبوراً . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَرُفَـٰتاً } قال غباراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَرُفَـٰتاً } قال تراباً ، وفي قوله { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } قال ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله كما كنتم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله { أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } قال الموت ، لو كنتم موتاً لأحييتكم . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، والحاكم عن ابن عباس مثله . وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن مثله أيضاً . وأخرج عبد الله بن أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه ، وزاد قال فكونوا الموت إن استطعتم فإن الموت سيموت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ } قال سيحركونها استهزاءً . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ } قال الإعادة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } قال بأمره . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال يخرجون من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } قال بمعرفته وطاعته { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي في الدنيا ، تحاقرت الدنيا في أنفسهم ، وقلّت حين عاينوا يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين في قوله { وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } قال لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال يعفو عن السيئة . وأخرج ابن جرير عن الحسن قال يقول له يرحمك الله ، يغفر الله لك . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال نزغ الشيطان تحريشه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } قال كنا نحدّث أنه دعاء علمه داود ، وتحميد وتمجيد لله عزّ وجلّ ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود . وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال الزبور ثناء على الله ودعاء وتسبيح . قلت الأمر كما قاله قتادة والربيع ، فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطباً يخطبها داود عليه السلام ، ويخاطب بها ربه سبحانه عند دخوله الكنيسة ، وجملته مائة وخمسون خطبة ، كل خطبة تسمى مزموراً بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثاينة وآخره راء ، ففي بعض هذه الخطب يشكو داود على ربه من أعدائه ويستنصره عليهم ، وفي بعضها يحمد الله ويمجده ويثني عليه بسبب ما وقع من النصر عليهم والغلبة لهم ، وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة ، وهي آلة من آلات الملاهي . وقد ذكر السيوطي في الدرّ المنثور ها هنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظاً وقفوا عليها في الزبور ليس لها كثير فائدة ، فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر .