Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 78-85)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات ، وهي الصلاة ، فقال { أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } . وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية المراد بها الصلوات المفروضة . وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين أحدهما أنه زوال الشمس عن كبد السماء ، قاله عمر وابنه ، وأبو هريرة ، وأبو برزة ، وابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو جعفر الباقر ، واختاره ابن جرير . والقول الثاني أنه غروب الشمس ، قاله علي ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وروي عن ابن عباس . قال الفراء دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها . قال الأزهري معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة ، وقيل لها إذا أفلت دالكة ، لأنها في الحالتين زائلة . قال والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس ، والمعنى أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس { إلى غسق الليل } فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل ، وهما العشاءان ، ثم قال { وقرآن الفجر } هذه خمس صلوات . وقال أبو عبيد دلوكها غروبها ، ودلكت براح يعني الشمس أي غابت ، وأنشد قطرب على هذا قول الشاعر @ هذا مقام قدمي رباح ذبَّب حتى دلكت براح @@ اسم من أسماء الشمس على وزن حذام وقطام ، ومن ذلك قول ذي الرمة @ مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ، ولا بالآفلات الدوالك @@ أي الغوارب ، وغسق الليل اجتماع الظلمة . قال الفراء والزجاج يقال غسق الليل وأغسق إذا أقبل بظلامه ، قال أبو عبيد الغسق سواد الليل . قال قيس بن الرقيات @ إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهمّ والأرقا @@ وقيل غسق الليل مغيب الشفق ، ومنه قول زهير @ طلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق @@ وأصل الكلمة من السيلان يقال غسقت إذا سالت . وحكى الفراء غسق الليل وأغسق ، وظلم وأظلم ، ودجى وأدجى ، وغبش وأغبش ، وقد استدل بهذه الغاية ، أعني قوله { إلى غسق الليل } من قال إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب ، روي ذلك عن الأوزاعي ، وأبي حنيفة وجوّزه مالك والشافعي في حال الضرورة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أوقات الصلوات ، فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك . قوله { وقرآن الفجر } انتصاب { قرآن } لكونه معطوفاً على { الصلاة } أي وأقم قرآن الفجر ، قاله الفراء . وقال الزجاج والبصريون انتصابه على الإغراء أي فعليك قرآن الفجر . قال المفسرون المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح . قال الزجاج وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً ، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " ، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن " وقرآن معها " ، وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة ، وقد حررته في مؤلفاتي تحريراً مجوّداً . ثم علّل سبحانه ذلك بقوله { إن قرآن الفجر مشهوداً } أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار كما ورد ذلك في الحديث الصحيح ، وبذلك قال جمهور المفسرين { وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } " من " للتبعيض ، وانتصابه على الظرفية بمضمر ، أي قم بعض الليل فتهجد به ، والضمير المجرور راجع إلى القرآن ، وما قيل من أنه منتصب على الإغراء ، والتقدير عليك بعض الليل ، فبعيد جداً ، والتهجد مأخوذ من الهجود . قال أبو عبيدة وابن الأعرابي هو من الأضداد ، لأنه يقال هجد الرجل إذا نام ، وهجد إذا سهر ، فمن استعماله في السهر قول الشاعر @ ألا زارت وأهل منى هجود فليت خيالها بمنى يعود @@ يعني منتبهين ، ومن استعماله في النوم قول الآخر @ ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود @@ يعني نياماً . وقال الأزهري الهجود في الأصل هو النوم بالليل ، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرّج ، أي تجنب الإثم والحرج ، فالمتهجد من تجنب الهجود ، فقام بالليل . وروي عن الأزهري أيضاً أنه قال المتهجد القائم إلى الصلاة من النوم ، هكذا حكى عنه الواحدي ، فقيد التهجد بالقيام من النوم ، وهكذا قال مجاهد ، وعلقمة ، والأسود فقالوا التهجد بعد النوم . قال الليث تهجد إذا استيقظ للصلاة { نَافِلَةً لَّكَ } معنى النافلة في اللغة الزيادة على الأصل ، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض ، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر ، وقيل المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم ، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة ، وقيل كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم ، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً ، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة ، ولأمته تطوع . قال الواحدي إن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات ، لا للكفارات ، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخر ، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا ، إنما نعمل لكفارتها ، قال وهو قول جميع المفسرين . والحاصل أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبيّ في قوله { أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } ، فالأمر له أمر لأمته ، فهو شرع عام ، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل ، فإنه يعمّ جميع الأمة ، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب ، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف . ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } قد ذكرنا في مواضع أن { عسى } من الكريم إطماع واجب الوقوع ، وانتصاب { مقاماً } على الظرفية بإضمار فعل ، أو بتضمين البعث معنى الإقامة ، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال أي يبعثك ذا مقام محمود ومعنى كون المقام محموداً أنه يحمده كل من علم به . وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال الأول أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه ، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية ، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل ، قال الواحدي وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة . القول الثاني أن المقام المحمود إعطاء النبيّ لواء الحمد يوم القيامة . ويمكن أن يقال إن هذا لا ينافي القول الأوّل ، إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد . القول الثالث أن المقام المحمود هو أن الله سبحانه يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه ، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد ، وقد ورد في ذلك حديث . وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا الحديث . قال ابن عبد البرّ مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل ، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا ، والثاني في تأويل { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ } القيامة 22 ــ 23 . قال معناه تنتظر الثواب ، وليس من النظر . انتهى . وعلى كل حال فهذا القول غير منافٍ للقول الأوّل لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة . القول الرابع أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير ، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة ، فالمصير إليها متعين ، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى قوله " وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد " أنه عام في كل ما هو كذلك ، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق ، كما ذكره في ذبح البقرة ، ولهذا قال هنا . وقيل المراد الشفاعة ، وهي نوع واحد مما يتناوله ، يعني لفظ المقام ، والفرق بين العموم البدليّ والعموم الشموليّ معروف ، فلا نطيل بذكره . { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } . قرأ الجمهور { مدخل صدق ومخرج صدق } بضم الميمين . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم بفتحهما ، وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج ، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود أي إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً ، ولا يرى فيه ما يكره . قال الواحدي وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما ، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح . وقد اختلف المفسرون في معنى الآية ، فقيل نزلت حين أمر بالهجرة ، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة واختاره ابن جرير ، وقيل المعنى أمتني إماتة صدق ، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق ، وقيل المعنى أدخلني فيما أمرتني به ، وأخرجني مما نهيتني عنه ، وقيل إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين ، وهو كالقول الأوّل ، وقيل المراد إدخال عزّ وإخراج نصر ، وقيل المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق ، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق ، وقيل أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق ، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق ، وقيل أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق ، وأخرجني بالصدق . وقيل الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء ، ومعناها ربّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها . { وَٱجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَـٰناً نَّصِيرًا } أي حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني ، وقيل اجعل لي من لدنك ملكاً وعزاً قوّياً وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان ، فسأل سلطاناً نصيراً . وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير . قال ابن كثير وهو الأرجح لأنه لا بدّ مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ، ولهذا يقول تعالى { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله من ينصره ورسله بالغيب } الحديد 25 وفي الحديث " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " ، أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيراً من الناس بالقرآن ، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع . انتهى . { وَقُلْ جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ } المراد بالحق الإسلام ، وقيل القرآن ، وقيل الجهاد ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائناً ما كان ، والمراد بالباطل الشرك ، وقيل الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل . ومعنى زهق بطل واضمحل ، ومنه زهوق النفس وهو بطلانها { إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا } أي إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت ، والحق ثابت دائماً . { وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } قرأ الجمهور { ننزل } بالنون . وقرأ أبو عمرو بالتخفيف . وقرأ مجاهد بالياء التحتية والتخفيف ، ورواها المروزي عن حفص ، و " من " لابتداء الغاية ، ويصح أن تكون لبيان الجنس . وقيل للتبعيض ، وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ، ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله . واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين الأوّل أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه . القول الثاني أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوّذ ونحو ذلك ، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز ، أو من باب حمل المشترك على معنييه . ثم ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا ، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سبباً لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه ، ومثل هذه الآية قوله تعالى { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } فصلت 44 . ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين ، ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرّة عليهم فقال { وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } أي ولا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع التصديق ، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان { إَلاَّ خَسَارًا } أي هلاكاً ، لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرّداً وعناداً ، فعند ذلك يهلكون وقيل الخسار النقص كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } التوبة 125 . ثم نبّه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَـٰنِ } أي على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى { أَعْرَضَ } عن الشكر لله والذكر له { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } النأي البعد ، والباء للتعدية أو للمصاحبة ، وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته ، والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره ، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به ، ويراد بالنأي بجانبه التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم . وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر ناء مثل باع بتأخير الهمزة على القلب ، وقرأ حمزة ناءى بإمالة الفتحتين ووافقه الكسائي ، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط . وقرأ الباقون بالفتح فيهما { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ } من مرض أو فقر { كَانَ يَئُوساً } شديد اليأس من رحمة الله ، والمعنى أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود نسي المعبود ، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف ، وغلب عليه القنوط ، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } فصلت 51 . ونظائره ، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية ، ولا يبعد أن يقال لا منافاة بين الآيتين ، فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه . { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } الشاكلة قال الفراء الطريقة ، وقيل الناحية ، وقيل الطبيعة ، وقيل الدين ، وقيل النية ، وقيل الجبلة ، وهي مأخوذة من الشكل ، يقال لست على شكلي ولا على شاكلتي ، والشكل هو المثل والنظير . والمعنى أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها ، وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً } لأنه الخالق لكم ، العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق ، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة ، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم . ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه ، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } قد اختلف الناس في الروح المسئول عنه ، فقيل هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته ، وبهذا قال أكثر المفسرين . قال الفراء الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه ، ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي إنكم لا تعلمونه ، وقيل الروح المسئول عنه جبريل ، وقيل عيسى ، وقيل القرآن ، وقيل ملك من الملائكة عظيم الخلق ، وقيل خلق كخلق بني آدم ، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده ، والظاهر القول الأول ، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية ، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح ، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله ، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى } " من " بيانية ، والأمر الشأن ، والإضافة للاختصاص ، أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده ، وقيل معنى { مِنْ أَمْرِ رَبّى } من وحيه وكلامه لا من كلام البشر . وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام ، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا . وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول ، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع ، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم ، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه ، ولم يستأثر بعلمه . ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه { وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } أي أن علمكم الذي علمكم الله ، ليس إلاّ المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه ، وإن أوتي حظاً من العلم وافراً ، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلاّ كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر ، كما في حديث موسى والخضر عليهم السلام . وقد أخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال { دلوك الشمس } غروبها ، تقول العرب إذا غربت الشمس دلكت الشمس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن علي قال دلوكها غروبها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس ، قال { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } لزوال الشمس . وأخرج البزار ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دلوك الشمس زوالها " وضعف السيوطي إسناده . وأخرجه مالك في الموطأ ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله . وأخرج عبد الرزاق عنه قال " دلوك الشمس زياغها بعد نصف النهار " وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير عن ابن عباس قال دلوكها زوالها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عنه في قوله { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } قال إذا فاء الفيء . وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر " وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ، ثم تلا { أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } . وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه . ومما يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال " أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس " ، وفي إسناده رجل مجهول ولكنه أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار ، عن أبي عوانة ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنبري ، عن جابر فذكر نحوه مرفوعاً . وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قوله { إلى غسق الليل } قال إلى العشاء الآخرة . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال { غَسَقِ ٱلَّيْلِ } اجتماع الليل وظلمته . وأخرج ابن جرير عنه قال { غَسَقِ ٱلَّيْلِ } بدّو الليل . وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال دلوك الشمس إذا زالت الشمس عن بطن السماء وغسق الليل غروب الشمس . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { وقرآن الفجر } قال صلاة الصبح . وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها " ، وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ " تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " ، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً نحوه . وأخرج الحكيم الترمذي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { نَافِلَةً لَّكَ } يعني خاصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أمر بقيام الليل وكتب عليه . وأخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث هنّ عليّ فرائض وهنّ لكم سنّة الوتر ، والسواك ، وقيام الليل " وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله { نَافِلَةً لَّكَ } قال كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة ولكم فضيلة ، وفي لفظ إنما كانت النافلة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } وسئل عنه ، قال " هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي " . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تلّ ، ويكسوني ربى حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود " وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها ، يقولون يا فلان ، اشفع ، يا فلان ، اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً . وأخرج عنه نحوه مرفوعاً ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها ، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها . وأخرج الطبراني في قوله { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } قال يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته ، فذلك المقام المحمود . وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } ، قال يجلسني معه على السرير " وينبغي الكشف عن إسناد هذين الحديثين . وأخرج أحمد ، والترمذي ، وصححه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَـٰناً نَّصِيرًا } . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن قتادة في قوله { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى } الآية ، قال أخرجه الله من مكة مخرج صدق ، وأدخله المدينة مدخل صدق . قال وعلم نبيّ الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله ، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده ، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض ، وأكل شديدهم ضعيفهم . وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب قال والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول { جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا } و { جَاء ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىء ٱلْبَـٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ } سبأ 49 . وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } قال تباعد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { كَانَ يَئُوساً } قال قنوطاً ، وفي قوله { كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } قال على ناحيته . وأخرج هناد ، وابن المنذر عن الحسن قال على شاكلته على نيته . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب ، فمرّ بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض اسألوه عن الروح ، فقال بعضهم لا تسألوه ، فقالوا يا محمد ، ما الروح ؟ فما زال متكئاً على العسيب ، فظننت أنه يوحى إليه ، فقال { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } . وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل ، قالوا سلوه عن الروح ، فنزلت { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } قالوا أوتينا علماً كثيراً ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فأنزل الله { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَـٰتِ رَبّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } الكهف 109 . وفي الباب أحاديث وآثار .