Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 86-93)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما بيّن سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلاّ قليلاً بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل ، فقال { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } واللام هي الموطئة ، و { لنذهبن } جواب القسم سادّ مسد جواب الشرط . قال الزجاج معناه لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر . انتهى . وعبر عن القرآن بالموصول تفخيماً لشأنه { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ } أي بالقرآن { عَلَيْنَا وَكِيلاً } أي لا تجد من يتوكل علينا في ردّ شيء منه بعد أن ذهبنا به ، والاستثناء بقوله { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } إن كان متصلاً فمعناه إلاّ أن يرحمك ربك فلا نذهب به ، وإن كان منقطعاً فمعناه لكن لا يشأ ذلك رحمة من ربك ، أو لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } حيث جعلك رسولاً وأنزل عليك الكتاب وصيرك سيد ولد آدم ، وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم به عليه . ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ } المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } أظهر في مقام الإضمار ، ولم يكتف بأن يقول لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور ، لدفع توهم أن يكون له مثل معين ، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان ، وهو جواب قسم محذوف كما تدل عليه اللام الموطئة ، وسادّ مسدّ جواب الشرط ، ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدي لها كل واحد منهم على الانفراد ، أو كان المتصدر بها المجموع بالمظاهرة فقال { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } أي عوناً ونصيراً ، وجواب لو محذوف ، والتقدير ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يأتون بمثله ، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال ، وقد تقدّم وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة . وفي هذه الآية ردّ لما قاله الكفار { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } الأنفال 31 ، وإكذاب لهم . ثم بين سبحانه أن الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ } أي رددنا القول فيه بكلّ مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأوّلين والجنة والنار والقيامة { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا } يعني من أهل مكة ، فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم ، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ، وأظهر في مقام الإضمار حيث قال { فأبى أكثر الناس } توكيداً أو توضيحاً ، ولما كان { أبى } مؤولاً بالنفي ، أي ما قبل ، أو لم يرض ، صح الاستثناء منه قوله { إِلاَّ كُفُورًا } . { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحرث ، ثم علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } . قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم { حتى تفجر } مخففاً ، مثل تقتل . وقرأ الباقون بالتشديد ، ولم يختلفوا في { فتفجر الأنهار } أنها مشدّدة ، ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد ، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع . وأجيب عنه بأن الينبوع وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الجمع ، فإن الينبوع العيون التي لا تنضب . ويردّ بأن الينبوع عين الماء ، والجمع الينابيع ، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع ، والياء زائدة كيعبوب ، من عبّ الماء . { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ } أي بستان تستر أشجاره أرضه . والمعنى هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون لك جنة { مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ ٱلأنْهَـٰرَ } أي تجريها بقوة { خِلَـٰلَهَا تَفْجِيرًا } أي وسطها تفجيراً كثيراً { أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } قرأ مجاهد أو تسقط مسنداً إلى السماء . وقرأ من عداه أو تسقط على الخطاب ، أي أو تسقط أنت يا محمد السماء . والكسف بفتح السين جمع كسفة . وهي قراءة نافع وابن عامر ، وعاصم ، والكسفة القطعة . وقرأ الباقون « كسفاً » بإسكان السين . قال الأخفش من قرأ بإسكان السين جعله واحداً ومن قرأ بفتحها جعله جمعاً . قال المهدوي ويجوز أن يكون على قراءة الكون جمع كسفة ، ويجوز أن يكون مصدراً . قال الجوهري الكسفة القطعة من الشيء ، يقال أعطني كسفة من ثوبك ، والجمع كِسْفٌ وكِسَفٌ ، ويقال الكسف والكسفة واحد ، وانتصاب { كسفاً } على الحال ، والكاف في { كما زعمت } في محل نصب على أنه صفة مصدر محذوف ، أي إسقاطاً ممائلاً لما زعمت ، يعنون بذلك قول الله سبحانه { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ ٱلسَّمَاء } سبأ 9 . قال أبو علي الكسف بالسكون الشيء المقطوع ، كالطحن للمطحون ، واشتقاقه على ما قال أبو زيد من كسفت الثوب كسفاً إذا قطعته . وقال الزجاج من كسفت الشيء ، إذا غطيته ، كأنه قيل أو تسقطها طبقاً علينا { أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَـئِكَةِ قَبِيلاً } . اختلف المفسرون في معنى { قَبِيلاً } فقيل معناه معاينة ، قاله قتادة وابن جريج ، واختاره أبو علي الفارسي فقال إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدراً كالنكير والنذير . وقيل معناه كفيلاً ، قاله الضحاك ، وقيل شهيداً ، قاله مقاتل ، وقيل هو جمع القبيلة ، أي تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة ، قاله مجاهد وعطاء ، وقيل ضمناً ، وقيل مقابلاً كالعشير والمعاشر . { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ } أي من ذهب ، وبه قرأ ابن مسعود ، وأصله الزينة ، والمزخرف المزين ، وزخارف الماء طرائقه ، وقال الزجاج هو الزينة ، فرجع إلى الأصل معنى الزخرف ، وهو بعيد لأنه يصير المعنى أو يكون لك بيت من زينة { أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَاء } أي تصعد في معارجها يقال رقيت في السلم إذا صعدت وارتقيت . مثله { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ } أي لأجل رقيك ، وهو مصدر نحو مضى يمضي مضياً ، وهوى يهوي هوياً { حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ } أي حتى تنزل علينا من السماء كتاباً يصدقك ويدل على نبوّتك نقرؤه جميعاً ، أو يقرؤه كل واحد منا ، وقيل معناه كتاباً من الله إلى كل واحد منا كما في قوله { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } المدثر 52 فأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم ، والتنزيه للربّ سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال { قُلْ سُبْحَـٰنَ رَبّى } أي تنزيهاً لله عن أن يعجز عن شيء . وقرأ أهل مكة والشام قال سبحان ربي يعني النبي صلى الله عليه وسلم { هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا } من البشر لا ملكاً حتى أصعد السماء { رَسُولاً } مأموراً من الله سبحانه بإبلاغكم ، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشراً قدر على شيء منها ؟ وإن أردتم أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي ، فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك ، لأن بها يتبين صدقه ، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة ، وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري ، ولا دعت إليه حاجة ، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات ، وطلب لنفسه إظهار آيات ، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وتنزّه عن تعنتاتهم ، وتقدّس عن اقتراحاتهم . وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال إن هذا القرآن سيرفع ، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف ؟ قال يسري عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلاّ رفعت ، فتصبحون وليس فيكم منه شيء ، ثم قرأ { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } وقد روي عنه هذا من طرق . وأخرج ابن عدّي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج محمد بن نصر عن عبد الله بن عمرو نحوه موقوفاً . وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن أبي هريرة موقوفاً نحوه أيضاً . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن شيخان ونعيمان بن آصي وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم ، فقالوا أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله ، فإنا لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة ؟ فقال لهم " والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله " ، قالوا إنا نجيئك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ } » ، الآية . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ، ورجلاً من بني عبد الدار ، وأبا البحتري أخا بني أسيد والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونبيهاً ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه ، وذكر حديثاً طويلاً يشتمل على ما سألوه عنه وتعنتوه ، وأن ذلك كان سبب نزول قوله { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } إلى قوله { بَشَرًا رَّسُولاً } . وإسناده عند ابن جرير هكذا حدّثنا أبو كريب ، حدّثنا يونس بن بكير ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، حدّثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فذكره ، ففيه هذا الرجل المجهول . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } قال نزلت في أخي أمّ سلمة عبد الله بن أبي أمية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله { يَنْبُوعًا } قال عيوناً . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال الينبوع هو النهر الذي يجري من العين . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ } يقول ضيعة . وأخرج ابن جرير عنه { كسفاً } قال قطعاً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { قَبِيلاً } قال عياناً . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { مّن زُخْرُفٍ } قال من ذهب . وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، وأبو نعيم عن مجاهد قال لم أكن أحس ما الزخرف ؟ حتى سمعتها في قراءة عبد الله أو يكون لك بيت من ذهب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله { كِتَابًا نَّقْرَءهُ } قال من ربّ العالمين إلى فلان ابن فلان . يصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها .