Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 109-110)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَـٰتِ رَبّى } قال ابن الأنباري سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء ، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداد ، والمراد بالبحر هنا الجنس . والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمته ، وفرض أن جنس البحر مداداً لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات ، ولو جئنا بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً ، وقيل في بيان المعنى لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب { لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى } وقوله { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله { قل لو كان } . وفيه زيادة مبالغة وتأكيد ، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدّرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجىء بمثله مدداً ولو جئنا بمثله مدداً ، والمدد الزيادة ، وقيل عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى ، وهو وإن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد ، وقد عبّرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع ، قال الأعشى @ ووجه نقّي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم @@ فعبّر باللبات عن اللبة . قال الجبائي إن قوله { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى } يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة ، وما ثبت عدمه امتنع قدمه . وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية ، وقيل في الجواب إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدّل على نفاد الشيء الآخر ، ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر ، أما أنها متناهية ، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية . والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته ، وهي غير متناهية ، فالكلمات غير متناهية . وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد ولو جئنا بمثله مداداً وهي كذلك في مصحف أبيّ ، وقرأ الباقون { مدداً } وقرأ حمزة والكسائي قبل أن ينفد بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية ، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك مسلك التواضع ، فقال { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية ، ومن كان هكذا فهو لا يدّعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال { يُوحَىٰ إِلَىَّ } وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر ، ثم بيّن أن الذي أوحى إليه هو قوله { أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } لا شريك له في ألوهيته ، وفي هذا إرشاد إلى التوحيد ، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل ، والمعنى من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً } وهو ما دلّ الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } من خلقه سواء كان صالحاً ، أو طالحاً ، حيواناً أو جماداً ، قال الماوردي قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً . وأقول إن دخول الشرك الجليّ الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدّم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء ، ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها ، إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية . وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { لّكَلِمَـٰتِ رَبّى } يقول علم ربي . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال يقول ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية قال أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلٰهاً غيره ، وليست هذه في المؤمنين . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن عباس قال قال رجل يا نبيّ الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله ، وأحبّ أن يرى موطني ، فلم يردّ عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } . وأخرج ابن منده ، وأبو نعيم في الصحابة ، وابن عساكر من طريق السدّي الصغير عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدّق فذكر بخير ارتاح له ، فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله ، فنزل في ذلك { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال « قال رجل يا رسول الله أعتق وأحبّ أن يرى ، وأتصدّق وأحبّ أن يرى ، فنزلت { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية وهو مرسل . وأخرجه هناد في الزهد عنه أيضاً . وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، نادى منادٍ من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله ، الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا ؟ فقال " لا أجر له ، " فأعظم الناس ذلك ، فعاد الرجل فقال " لا أجر له " . وأخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص ، وابن جرير في تهذيبه ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن شدّاد بن أوس قال كنا نعدّ الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر . وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، وابن أبي الدنيا ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن شدّاد بن أوس أيضاً قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك ، ثم قرأ { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية " وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، وابن مردويه ، وأبو نعيم عن شدّاد أيضاً قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي ، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غنيّ " وأخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير في تهذيبه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ ؟ الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل " وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن شدّاد بن أوس سمعت رسول الله يقول صلى الله عليه وسلم " أتخوّف على أمتي الشرك والشهوة الخفية ، قلت أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال نعم ، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ، ولكن يراءون الناس بأعمالهم ، قلت يا رسول الله ما الشهوة الخفية ؟ قال يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته " وأخرج أحمد ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال " أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ، وهو للذي أشرك " ، وفي لفظ " فمن أشرك بي أحداً فهو له كله " وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر ، وأن الله لا يقبله ، وقد استوفاها صاحب الدرّ المنثور في هذا الموضع فليرجع إليه ، ولكنها لا تدلّ على أنه المراد بالآية ، بل الشرك الجليّ يدخل تحتها دخولاً أوّلياً ، وعلى فرض أن سبب النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدّمنا ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرّر في علم الأصول . وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه عن أبي حكيم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم " وأخرج ابن راهويه ، والبزار ، والحاكم وصححه ، والشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ في ليلة { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية ، كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة " قال ابن كثير بعد إخراجه غريب جداً . وأخرج ابن الضريس عن أبي الدرداء قال من حفظ خاتمة الكهف كان له نور يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } وقال إنها آخر آية نزلت من القرآن . قال ابن كثير وهذا أثر مشكل ، فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف ، والكهف كلها مكية ، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا يغير حكمها ، بل هي مثبتة محكمة ، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه .