Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 99-108)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } هذا من كلام الله سبحانه بعد انقضاء كلام ذي القرنين ، والضمير في { بعضهم } ليأجوج ومأجوج ، أي تركنا بعض يأجوج ومأجوج يوم مجيء الوعد ، أو يوم خروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم ، يقال ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء . والمعنى أنهم يضطربون ويختلطون ، وقيل الضمير في { بعضهم } للخلق ، واليوم يوم القيامة أي وجعلنا بعض الخلق من الجنّ والإنس يموج في بعض ، وقيل المعنى وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السدّ وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض ، وقد تقدّم تفسير { وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ } في الأنعام ، قيل هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد { فَجَمَعْنَـٰهُمْ جَمْعاً } فإن الفاء تشعر بذلك ، ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة . والمعنى جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها تراباً جمعاً تاماً على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب . { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَـٰفِرِينَ عَرْضاً } المراد بالعرض هنا الإظهار ، أي أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا لهم ، وفي ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة ، ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى } أي كانت أعينهم في الدنيا في غطاء ، وهو ما غطى الشيء وستره من جميع الجوانب { عن ذكري } عن سبب ذكري ، وهو الآيات التي يشاهدها من له تفكر واعتبار ، فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد ، فأطلق المسبب على السبب ، أو عن القرآن العظيم ، وتأمل معانيه وتدبر فوائده . ثم لما وصفهم سبحانه بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما ، أراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } أي لا يقدرون على الاستماع لما فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله ، وهذا أبلغ مما لو قال وكانوا صماً ، لأن الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية ، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية . { أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الحسبان هنا بمعنى الظنّ . والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره . والمعنى أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردّهم عن قبول الحق ، ومعنى { أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى } أي يتخذوهم من دون الله ، وهم الملائكة والمسيح والشياطين { أَوْلِيَاء } أي معبودين ، قال الزجاج المعنى أيحسبون أن ينفعهم ذلك ؟ وقرىء أفحسب بسكون السين ، ومعناه أكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على أنه مبتدأ وخبر ، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ نُزُلاً } أي هيأناها لهم نزلاً يتمتعون به عند ورودهم . قال الزجاج النزل المأوى والمنزل ، وقيل إنه الذي يعدّ للضيف ، فيكون تهكماً بهم كقوله { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . والمعنى أن جهنم معدّة لهم عندنا كما يعد النزل للضيف ، { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً } انتصاب { أعمالاً } على التمييز ، والجمع للدلالة على إرادة الأنواع منها ، ومحل الموصول وهو { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل من هم ؟ فقيل هم الذين ضل سعيهم ، والمراد بضلال السعي بطلانه وضياعه ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذمّ ، ويكون الجواب { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ } ويجوز أن يكون في محل جرّ على أنه نعت لـ { لأخسرين } أو بدل منه ، ويكون الجواب أيضاً هو أولٰئك وما بعده ، وأول هذه الوجوه هو أولاها ، وجملة { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } في محل نصب على الحال من فاعل { ضلّ } ، أي والحال أنهم يظنون أنهم محسنون في ذلك منتفعون بآثاره ، وتكون جملة { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ } مستأنفة مسوقة لتكميل الخسران وبيان سببه ، هذا على الوجه الأوّل الراجح لا على الوجوه الآخرة ، فإنها هي الجواب كما قدّمنا ، ومعنى كفرهم بآيات ربهم كفرهم بدلائل توحيده من الآيات التكوينية والتنزيلية ، ومعنى كفرهم بلقائه كفرهم بالبعث وما بعده من أمور الآخرة ، ثم رتب على ذلك قوله { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي التي عملوها مما يظنونه حسناً ، وهو خسران وضلال ، ثم حكم عليهم بقوله { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً } أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا نعبأ بهم ، وقيل لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم ، لأن ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ، وهؤلاء لا حسنات لهم . قال ابن الأعرابي العرب تقول ما لفلان عندنا وزن ، أي قدر لخسته ، ويوصف الرجل بأنه لا وزن له لخفته ، وسرعة طيشه ، وقلة تثبته . والمعنى على هذا أنهم لا يعتدّ بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة ، وقرأ مجاهد يقيم بالياء التحتية ، أي فلا يقيم الله ، وقرأ الباقون بالنون . ثم بيّن سبحانه عاقبة هؤلاء وما يئول إليه أمرهم فقال { ذٰلِكَ } أي الذي ذكرناه من أنواع الوعيد جزاؤهم ، ويكون قوله { جهنم } عطف بيان للجزاء ، أو جملة { جزاؤهم جهنم } مبتدأ وخبر ، والجملة خبر { ذلك } ، والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى الكفر اتخاذ آيات الله واتخاذ رسله هزوا ، فالباء في { بِمَا كَفَرُواْ } للسببية ، ومعنى كونهم هزوا أنهم مهزوء بهم . وقد اختلف السلف في تعيين هؤلاء الأخسرين أعمالاً ، فقيل اليهود والنصارى ، وقيل كفار مكة ، وقيل الخوارج ، وقيل الرهبان أصحاب الصوامع ، والأولى حمل الآية على العموم لكل من اتصف بتلك الصفات المذكورة . ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار الوعد للمؤمنين فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } أي جمعوا بينهما حتى كانوا على ضد صفة من قبلهم { كَانَتْ لَهُمْ } قال ابن الأنباري كانت فيما سبق من علم الله كانت لأهل طاعته { جَنَّـٰتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } قال المبرد الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب . واختار الزجاج ما قاله مجاهد إن الفردوس البستان باللغة الرومية ، وقد تقدّم بيان النزل ، وانتصابه على أنه خبر كان . والمعنى كانت لهم ثمار جنة الفردوس نزلاً معداً لهم مبالغة في إكرامهم ، وانتصاب { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } على الحال ، وكذلك جملة { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } في محل نصب على الحال ، والحول مصدر ، أي لا يطلبون تحوّلاً عنها إذ هي أعزّ من أن يطلبوا غيرها ، أو تشتاق أنفسهم إلى سواها . قال ابن الأعرابي وابن قتيبة والأزهري الحول اسم بمعنى التحوّل يقوم مقام المصدر ، وقال أبو عبيدة والفراء إن الحول التحويل . وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ } الآية قال الجنّ والإنس { يَمُوجُ } بعضهم { فِى بَعْضِ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } قال لا يعقلون سمعاً . وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر عن عليّ أنه قرأ " أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ " قال أبو عبيد بجزم السين وضم الباء . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قرأ كذلك . وأخرج عبد الرزاق ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه من طريق مصعب بن سعد قال سألت أبي { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً } أهم الحرورية ؟ قال لا هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب ، والحرورية { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ } ، وكان سعد يسميهم الفاسقين . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن مصعب قال قلت لأبي { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً } الحرورية هم ؟ قال لا ولكنهم أصحاب الصوامع ، والحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي حميصة عبد الله بن قيس قال سمعت عليّ بن أبي طالب يقول في هذه الآية { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً } إنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري . وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال سمعت عليّ بن أبي طالب وسأله ابن الكوّا فقال { هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً } قال فجرة قريش . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريقين عن عليّ أنه سئل عن هذه الآية { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلأخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً } قال لا أظنّ إلا أن الخوارج منهم ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال اقرءوا إن شئتم { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً } " وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله الفردوس ، فإنها سرّة الجنة ، وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه وسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمٰن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن مردويه عن عبادة بن الصامت ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة مائة درجة ، كل درجة منها ما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومن فوقها يكون العرش ، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " والأحاديث بهذا المعنى كثيرة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال الفردوس بستان بالرومية . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال هو الكرم بالنبطية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن المنذر ، عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعباً عن الفردوس قال هي جنات الأعناب بالسريانية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } قال متحوّلاً .