Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 178-179)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { كتبُ } ِ معناه فرض ، وأثبت ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة @ كُتِبَ القَتْلُ والقِتالُ عَلَيْنَا وعَلَى الغَانِيات جَرُّ الذُّيَولِ @@ وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك . وقيل إن { كتب } هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ . و { ٱلْقِصَاصُ } أصله قص الأثر أي اتباعه ، ومنه القاصّ لأنه يتتبع الآثار ، وقصّ الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل ، يقصّ أثره فيها ، ومنه قوله تعالى { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ ءاثَارِهِمَا قَصَصًا } الكهف 64 . وقيل إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع يقال قصصت ما بينهما أي قطعته . وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد ، وهم الجمهور . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وداود إلى أنه يقتل به . قال القرطبي وروى ذلك عن عليّ ، وابن مسعود ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النَّخعي ، وقتادة والحكم بن عتيبة ، واستدلوا بقوله تعالى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } المائدة 45 وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى { ٱلْحُرُّ بِالْحُرّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ } مفسر لقوله تعالى { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } وقالوا أيضاً إن قوله { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة . ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ويجاب عنه بأنه مجمل ، والآية مبينة ، ولكنه يقال إن قوله تعالى { ٱلْحُرُّ بِالْحُرّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ } إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ ، والعبد يقتل بالعبد ، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم ، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا ، والبحث في هذا محرر في علم الأصول . وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر ، وهم الكوفيون ، والثوري ، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم ، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى { أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة . وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر ، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر ، وهو مبين لما يراد في الآيتين ، والبحث في هذا يطول . واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى ، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل . وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبو ثور . وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ، ولا زيادة ، وهو الحق . وقد بسطنا البحث في شرح المنْتقى ، فليرجع إليه . قوله { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } « من » هنا عبارة عن القاتل . والمراد بالأخ المقتول ، أو الوليّ ، والشيء عبارة عن الدم ، والمعنى أن القاتل ، أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه ، أو الوليّ دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية ، أو الأرش ، فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف ، وليؤدِّ الجاني ما لزمه من الدية ، أو الأرش إلى المجني عليه ، أو إلى الوليّ أداء بإحسان . وقيل إن « من » عبارة عن الوليّ ، والأخ يراد به القاتل ، والشيء الدية ، والمعنى أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية ، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها ، أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك ، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير ، بل إذا رضى الأولياء بالدية ، فلا خيار للقاتل بل يلزمه تسليمها . وقيل معنى « عُفِى » بذل . أي من بُذِل له شيء من الدية ، فليقبل ، وليتبع بالمعروف . وقيل إن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات ، فيكون عفى بمعنى فضل ، وعلى جميع التقادير ، فتنكير شيء للتقليل ، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية ، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة . وقوله { فَٱتِبَاعٌ } مرتفع بفعل محذوف ، أي فليكن منه اتباع ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي فالأمر اتباع ، وكذا قوله { وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ } وقوله { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ } إشارة إلى العفو ، والدية أي أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض ، أو بعوض ، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود ، فإنه أوجب عليهم القصاص ، ولا عفو ، وكما ضيق على النصارى ، فإنه أوجب عليهم العفو ، ولا دية . قوله { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } أي بعد التخفيف ، نحو أن يأخذ الدية ، ثم يقتل القاتل ، أو يعفو ، ثم يستقص . وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية ؟ فقال جماعة منهم مالك ، والشافعي إنه كمن قتل ابتداءً ، إن شاء الوليّ قتله ، وإن شاء عفا عنه . وقال قتادة وعكرمة ، والسدي وغيرهم عذابه أن يقتل البتة ، ولا يمكِّنُ الحاكمُ الوليَّ من العفو . وقال الحسن عذابه أن يرد الدية فقط ، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة . وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى . قوله { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كَفَّ عن القتل ، وانزجر عن التسرع إليه ، والوقوع فيه ، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية ، وهذا نوع من البلاغة بليغ ، وجنس من الفصاحة رفيع ، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياةً باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً ، إبقاء على أنفسهم ، واستدامةً لحياتهم وجعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل وأما من كان مصاباً بالحمق ، والطيش ، والخفة ، فإنه لا ينظر عند سورة غضبه ، وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ، ولا يفكر في أمر مستقبل ، كما قال بعض فتاكهم @ سأَغْسِلُ عَنَّي العَارَ بِالسَيْفِ جَالباً عَليّ قَضَاء الله مَا كَان جَالِباً @@ ثم علّل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص ، فيكون ذلك سبباً للتقوى ، وقرأ أبو الجوزاء " ولكم في القصص حياة " قيل أراد بالقصص القرآن أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة ، أي نجاة ، وقيل أراد حياة القلوب ، وقيل هو مصدر بمعنى القصاص ، والكل ضعيف ، والقراءة به منكرة . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل ، وجراحات حتى قتلوا العبيد ، والنساء ، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة ، والأموال ، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزلت هذه الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الشعبي نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } المائدة 45 ، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم ، في النفس ، وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس ، وفيما دون النفس رجالهم ، ونساءهم . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي مالك قال كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطَّوْل ، فكأنهم طلبوا الفضل ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية { ٱلْحُرُّ بِالْحُرّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأنثَىٰ بِٱلأنْثَىٰ } المائدة 45 قال ابن عباس فنسختها { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ } قال هو العمد رضي أهله بالعفو . { فَٱتِبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } أمر به الطالب { وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ } من القابل ، قال يؤدي المطلوب بإحسان . { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } مما كان على بني إسرائيل . وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، عنه من وجه آخر . وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم تكن الدية فيهم ، فقال الله لهذه الأمة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } إلى قوله { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } ، فالعفو أن تقبل الدية في العمد { فَٱتِبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } مما كتب على من كان قبلكم { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } قيل بعد قبول الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وأخرج ابن جرير ، عن قتادة قال كان أهل التوراة إنما هو القصاص ، أو العفو ليس بينهما أرش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به ، وجعل الله لهذه الأمة القتل ، والعفو ، والدية إن شاءوا أحلها لهم ، ولم تكن لأمة قبلهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أصيب بقتل ، أو خبلٍ ، فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتصّ ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة ، فخذوا على يديه ، ومن اعتدى بعد ذلك ، فله نار جهنم خالداً فيها أبداً " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة ، أنه إذا قتل بعد أخذ الدية ، فله عذاب عظيم ، قال فعليه القتل لا تقبل منه الدية . قال وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية " ، وأخرج سمويه في فوائده ، عن سَمُرَة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عكرمة أنه قال يقتل . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } قال جعل الله في القصاص حياة ، ونكالاً ، وعظة إذا ذكره الظالم المعتدي كفّ عن القتل . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال لعلك تتقي أن تقتله ، فتقتل به . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { يأُوْلِي ٱلأبَـٰبِ } قال من كان له لبّ يذكر القصاص ، فيحجزه خوف القصاص عن القتل { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص .