Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 19-20)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين أي مثلوهم بهذا أو هذا ، وهي وإن كانت في الأصل للشك ، فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك وقيل إنها بمعنى الواو ، قاله الفراء وغيره ، وأنشد @ وَقَد زَعَمَت لَيْلى بأني فَاجِرٌ لِنَفسِي تقَاهَا أو عَلَيَها فُجُورَها @@ وقال آخر @ نال الخِلافَة أو كانت لَهُ قَدَراً كَمَا أتَى رَبَه ُموسَى على قَدَرٍ @@ والمراد بالصِّيب المطر ، واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل . قال علقمة @ فَلا تَعِدلِي بَيني وبَيَن مُعَمرَّ سَقَتْك رَوَايا الموتِ حَيْثُ تُصَوُب @@ وأصله صيوب ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعلوا في مِّيت وسِّيد . والسماء في الأصل كل ما علاك فأظلك . ومنه قيل لسقف البيت سماء . والسماء أيضاً المطر سمي بها لنزوله منها ، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب ، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب ، فمنه قول حسان @ ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الدوامس والسماء @@ وقال آخر @ إذا نزل السماء بأرض قوم @@ والظلمات قد تقدّم تفسيرها ، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم . والرعد اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب . وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال « سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ قال " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله " قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال " زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر " قالت صدقت » الحديث بطوله ، وفي إسناده مقال . قال القرطبي وعلى هذا التفسير أكثر العلماء ، وقيل هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها ، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة ، وجهلة المتكلمين ، وقيل غير ذلك ، والبرق مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب ، وإليه ذهب كثير من الصحابة ، وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق . وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك . وقوله { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلاً قال فكيف حالهم عند ذلك الرعد ؟ فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم . وإطلاق الإصبع على بعضها مجاز مشهور ، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الإصبع لا كلها . والصواعق - ويقال الصواقع - هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها ، ويدلّ على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة . ومنهم من قال إنها نار تخرج من فم الملك . وقال الخليل هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد ، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه . وقال أبو زيد الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد . وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها . وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ماله مزيد فائدة وإيضاح . ونصب { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } على أنه مفعول لأجله . وقال الفراء منصوب على التمييز ، والموت ضدّ الحياة . والإحاطة ، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه . وقوله { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } جملة مستأنفة ، كأنه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق ؟ ويكاد يقارب . والخطف الأخذ بسرعة ، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته . وقرأ مجاهد { يَخْطِفُ } بكسر الطاء ، والفتح أفصح . وقوله { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } كلام مستأنف كأنه قيل كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق ، وسكونه ؟ وهو تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب ، { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ } بالزيادة في الرعد ، والبرق { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } وهذا من جملة مقدوراته سبحانه . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال { أَوْ كَصَيّبٍ } هو المطر ضرب مثله في القرآن { فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ } يقول ابتلاء { وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } تخويف { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } يقول كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا ، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } الحج 11 الآية . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قالوا كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد ، وصواعق ، وبرق ، فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان ليتنا قد أصبحنا ، فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ، ووضعا أيديهما في يده ، وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء ، فيقتلوا ، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه أي فإذا كثرت أموالهم ، وأولادهم ، وأصابوا غنيمة ، وفتحا مشو فيه ، وقالوا إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق ، واستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، فكانوا إذا هلكت أموالهم ، وأولادهم ، وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وارتدوا كفراً كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال { أَوْ كَصَيّبٍ } قال هو ، المطر وهو مثل للمنافق في ضوئه ، يتكلم بما معه من كتاب الله مراآة الناس ، فإذا خلا ، وحده عمل بغيره ، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات فالضلالات . وأما البرق فالإيمان ، وهم أهل الكتاب ، وإذا أظلم عليهم فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أيضاً نحو ما سلف . وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين . واعلم أن المنافقين أصناف ، فمنهم من يظهر الإسلام ، ويبطن الكفر ، ومنهم من قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما " ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه ، واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها من إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " وورد بلفظ " أربع " ، وزاد « وإذا خاصم فجر » . وورد بلفظ « وإذا عاهد غدر » . وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين .