Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 260-260)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله " وَإِذْ " ظرف منصوب بفعل محذوف ، أي اذكر وقت قول إبراهيم ، وإنما كان الأمر بالذكر موجهاً إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى ، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف . وقوله { رَبّ } آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء . وقوله { أَرِنِى } قال الأخفش لم يرد رؤية القلب ، وإنما أراد رؤية العين ، وكذا قال غيره ، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة ، والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى المفعول الثاني ، وهو الجملة أعني قوله { كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } وكيف في محل نصب على التشبيه بالظرف ، أو بالحال ، والعامل فيها الفعل الذي بعدها . وقوله { أَوَلَمْ تُؤْمِن } عطف على مقدر أي ألم تعلم ، ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته ؟ { قَالَ بَلَىٰ } علمت ، وآمنت بأنك قادر على ذلك ، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان . وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة لما جُبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليس الخبر كالمعاينة " وحكى ابن جرير ، عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله . واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين ، وغيرهما من قوله " نحن أحق بالشك من إبراهيم " وبما روى عن ابن عباس أنه قال « ما في القرآن عندي آية أرجى منها » . أخرجه عنه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له . قال ابن عطية وهو عندي مردود ، يعني قول هذه الطائفة ، ثم قال وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم " نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، فإبراهيم أحرى أن لا يشك . فالحديث مبني على نفي الشكّ عن إبراهيم . وأما قول ابن عباس هي أرجى آية ، فمن حيث أن فيها الإدلال على الله ، وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك . ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله { أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير ، وبحث ، قال فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوة ، والخلة ؟ والأنبياء معصومون من الكبائر ، ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً ، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام ، وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكاً ، وذلك أن الاستفهام بـ { كيف } إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل ، والمسئول نحو قولك كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا ، ومتى قلت كيف ثوبك ؟ وكيف زيد ؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله . وقد تكون { كيف } خبراً ، عن شيء شأنه أن يستفهم ، عنه بكيف نحو قولك كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري كيف كان بدء الوحي ؟ وهي في هذه الآية استفهام ، عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرّر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون ، عن إنكاره بالاستفهام ، عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدُعَّ أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذب له أرني كيف ترفعه . فهذه طريقة مجاز في العبارة ، ومعناها تسليم جدل ، كأنه يقول افرض أنك ترفعه . فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك ، وحمله على أن بين له الحقيقة ، فقال له { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ } فكمل الأمر ، وتخلص من كل شيء ، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة . قال القرطبي هذا ما ذكره ابن عطية ، وهو بالغ ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك ، فإنه كفر ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث . وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه ، وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } الإسراء 65 . وقال اللعين { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } الحجر 40 وإذا لم يكن له عليهم سلطنة ، فكيف يشككهم ، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، واتصال الأعصاب ، والجلود بعد تمزيقها ، فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين ، فقوله { أَرِنِى كَيْفَ } طلب مشاهدة الكيفية . قال الماوردي وليست الألف في قوله { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ألف الاستفهام ، وإنما هي ألف إيجاب ، وتقرير ، كما قال جرير @ ألَستُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا وَأنْدَى العَالَمين بُطونَ رَاحِ @@ والواو واو الحال ، و { تؤمن } معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فضل إحياء الموتى ، والطمأنينة اعتدال ، وسكون . وقال ابن جرير معنى { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } ليوقن . قوله { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } الفاء جواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ ، والطير اسم جمع لطائر كركب لراكب ، أو جمع ، أو مصدر ، وخص الطير بذلك ، قيل لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان ، وقيل إن الطير همته الطيران في السماء ، والخليل كانت همته العلوّ ، وقيل غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير . وكل هذه لا تسمن ، ولا تغني من جوع ، وليس إلا خواطر أفهام ، وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوها لكلام الله ، وعللاً لما يرد في كلامه ، وهكذا قيل ما وجه تخصيص هذا العدد ، فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد ؟ فقيل إن الخليل إنما سأل واحداً على عدد العبودية ، فأعطى أربعاً على قدر الربوبية ، وقيل إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان ، ونحو ذلك من الهذيان . قوله { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قرىء بضم الصاد ، وكسرها أي اضممهنّ إليك ، وأملْهُنّ ، واجمعهن ، يقال رجل أصور إذا كان مائل العنق ، ويقال صار الشيء يصوره أماله . قال الشاعر @ اللهُ يَعْلَمُ أَنَّا في تَلَفِتُّنا يَوْمَ الفِرَاقِ إلى جِيَرانِنا صُورُ @@ وقيل معناه قطعهنّ . يقال صار الشيء يصوره ، أي قطعه ، ومنه قول توبة بن الحميِّر @ فَأَدْنَتَ لي الأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُها بِنَهْضِى وَقَد كَادَ اجْتِماعِي يَصُورُهَا @@ أي يقطعها ، وعلى هذا يكون قوله { إِلَيْكَ } متعلقاً بقوله { خُذ } . وقوله { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } فيه الأمر بالتجزئة لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم تقدّم التجزئة . قال الزجاج المعنى ، ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً ، والجزء النصيب . وقوله { يَأْتِينَكَ } في محل جزم على أنه جواب الأمر ، ولكنه بُنِي لأجل نون الجمع المؤنث . وقوله { سَعْيًا } المراد به الإسراع في الطيران ، أو المشي . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس قال إن إبراهيم مرّ برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر ، فرأى دواب البحر تخرج ، فتأكل منه ، وسباع الأرض تأتيه ، فتأكل منه ، والطير يقع عليه ، فيأكل منه ، فقال إبراهيم عند ذلك ربّ ، هذه دواب البحر تأكل من هذا ، وسباع الأرض ، والطير ، ثم تميت هذه فتبلى ، ثم تحييها ، فأرني كيف تحيي الموتى ؟ { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } يا إبراهيم أني أحيي الموتى ؟ { قَالَ بَلَىٰ } يا ربّ { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } يقول لأرى من آياتك ، وأعلم أنك قد أجبتني ، فقال الله خذ أربعاً من الطير ، واصنع ما صنع ، والطير الذي أخذ وز ، ورأل ، وديك ، وطاوس ، وأخذ نصفين مختلفين ثم أتى أربعة أجْبُل ، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين ، وهو قوله { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } ثم تنحى ورءوسها تحت قدميه ، فدعا باسم الله الأعظم ، فرجع كل نصف إلى نصفه ، وكل ريش إلى طائره ، ثم أقبلت تطير بغير رءوس إلى قدميه تريد رءوسها بأعناقها ، فرفع قدميه ، فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه ، فعادت كما كانت . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وأخرج أيضاً ، عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن الحسن ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج أنها كانت جيفة حمار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } يقول أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } قال الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال الأربعة من الطير الديك ، والطاوس ، والغراب ، والحمام وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس { قصرهنّ } قال قطعهنّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال هي بالنبطية شققهن . وأخرجا عنه أنه قال { فَصُرْهُنَّ } أوثقهنّ ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال وضعهن على سبعة أجبل ، وأخذ الرءوس بيده ، فجعل ينظر إلى القطرة تلقي القطرة ، والريشة تلقي الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رءوس ، فجئن إلى رءوسهن ، فدخلن فيها .