Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-27)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أنزل الله هذه الآية ردّاً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } البقرة 17 وقوله { أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء } البقرة 19 فقالوا الله أجلّ ، وأعلا من أن يضرب الأمثال . وقال الرازي إنه تعالى لما بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك ، وأجاب عنها ، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل ، والعنكبوت ، والنمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً . وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة . انتهى . ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه ، وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ، ولا دليل عليه ، وقد تقدّمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف ، والظاهر ما ذكرناه أوّلا لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها ، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المح كذا في الكشاف ، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب . وقال القرطبي أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء ، والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله . انتهى . وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل ساغ ذلك لكونه ، واقعاً في الكلام المحكي عن الكفار ، وقيل هو من باب المشاكلة كما تقدم ، وقيل هو جارٍ على سبيل التمثيل . قال في الكشاف مثَّل تركه تخييب العبد ، وأنه لا يردّ يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياءً منه . انتهى . وقد قرأ ابن محيصن ، وابن كثير في رواية عنه « يستحي » بياء واحدة ، وهي لغة تميم ، وبكر بن وائل ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء ، فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين . وضرب المثل اعتماده وصنعه . و « ما » في قوله { مَّا بَعُوضَةً } إبهامية أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعمّ مما كان عليه ، وأكثر شيوعاً في أفراده ، وهي في موضع نصب على البدل من قوله { مَثَلاً } و { بَعُوضَةً } نعت لها لإبهامها ، قاله الفراء ، والزجاج ، وثعلب ، وقيل إنها زائدة ، وبعوضة بدل من مثل . ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر ، وقيل إنها منصوبة بنزع الخافض ، والتقدير أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة ، فحذف لفظ بين . وقد روي هذا عن الكسائي ، وقيل إن يضرب بمعنى يجعل ، فتكون بعوضة المفعول الثاني . وقرأ الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤية بن العجاج « بعوضةٌ » بالرفع ، وهي لغة تميم . قال أبو الفتح وجه ذلك أن « ما » اسم بمنزلة الذي ، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ ، ويحتمل أن تكون « ما » استفهامية كأنه قال تعالى { مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } حتى لا يضرب المثل به ، بل له أن يمثل بما هو أقلّ من ذلك بكثير ، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع ، يقال بعض وبضع بمعنى ، والبعوض البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها ، قاله الجوهري ، وغيره . وقوله { فَمَا فَوْقَهَا } قال الكسائي ، وأبو عبيدة ، وغيرهما فما فوقها والله أعلم ما دونها أي أنها فوقها في الصغر كجناحها . قال الكسائي ، وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيراً ، فيقول القائل ، أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى . ويمكن أن يراد ، فما زاد عليها في الكبر . وقد قال بذلك جماعة . قوله { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } " أما " حرف فيه معنى الشرط ، وقدّره سيبويه بمهما يكن من شيء ، فكذا . وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد ، وجعل تقدير سيبويه دليلاً على ذلك . والضمير في { أَنَّهُ } راجع إلى المثل . و { ٱلْحَقّ } الثابت ، وهو المقابل للباطل ، والحق ، واحد الحقوق ، والمراد هنا الأوّل . وقد اختلف النحاة في { ماذا } فقيل هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله ، فتكون في موضع نصب بأراد . قال ابن كيسان وهو الجيد . وقيل « ما » اسم تام في موضع رفع بالابتداء ، و « ذا » بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ مع صلته ، وجوابه يكون على الأوّل منصوباً وعلى الثاني مرفوعاً . والإرادة نقيض الكراهة ، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه . و { مَثَلاً } قال ثعلب منصوب على القطع ، والتقدير أراد مثلا . وقال ابن كيسان هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال ، وهذا أقوى من الأوّل . وقوله { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } هو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدّرتين بأما ، فهو خبر من الله سبحانه . وقيل هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرّق به الناس إلى ضلالة ، وإلى هدى ؟ وليس هذا بصحيح ، فإن الكافرين لا يقرّون بأن في القرآن شيئاً من الهداية ، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة . قال القرطبي ولا خلاف أن قوله { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } من كلام الله سبحانه . وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا ، وفي نسبته إلى الله سبحانه . وقد نقح البحث الرازيُّ في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفيساً ، وجوّده وطوّله ، وأوضح فروعه ، وأصوله ، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً . وأما صاحب الكشاف ، فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره ، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً ، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي ، . وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله { يُضِلَّ } يخذل . والفسق الخروج عن الشيء ، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها . والفأرة من جحرها ذكر معنى هذا الفراء . وقد استشهد أبو بكر بن الأَنباري في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج @ يهوين في نجد وغوراً غائراً فواسقاً عن قصدها جوائر @@ قد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ، ولا في شعرهم فاسق ، وهذا مردود عليه ، فقد حكى ذلك عن العرب ، وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس ، والجوهري ، وابن الأنباري ، وغيرهم . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خمس فواسق " الحديث . وقال في الكشاف الفسق الخروج عن القصد ، ثم ذكر عجز بيت رؤبة المذكور ، ثم قال والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة . انتهى . وقال القرطبي والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر ، وعلى من خرج بعصيان . انتهى . وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي ، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض . قال الرازي في تفسيره واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن ، أو كافر ؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن ، وعند الخوارج أنه كافر ، وعند المعتزلة لا مؤمن ، ولا كافر ، واحتج المخالف بقوله تعالى { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإيمَانِ } الحجرات 11 وقوله { إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ } التوبة 67 وقوله { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } الحجرات 7 وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام . انتهى . وقوله { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ } في محل نصب وصفاً للفاسقين . والنقض إفساد ما أبرم من بناء ، أو حبل ، أو عهد ، والنقاضة ما نقض من حبل الشعر . والعهد قيل هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره ، وقيل هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به ، وقيل بل نصب الأدلة على ، وحدانيته بالسموات ، والأرض ، وسائر مخلوقاته ، ونقضه ترك النظر فيه ، وقيل هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس . والميثاق العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدّة في العقد ، والربط ، والجمع المواثيق ، والمياثيق ، وأنشد ابن الأعرابي @ حِمىّ لا يُحَلُّ الدَّهْرَ إلا بِإذنِنا وَلا نَسْألُ الأقوامُ عَهْدَ المياثِق @@ واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الاستعارة ، والقطع معروف ، والمصدر في الرحم القطيعة ، وقطعت الحبل قطعاً ، وقطعت النهر قطعاً . و « ما » في قوله { مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ } في موضع نصب بـ { يقطعون } ، و { أَن يُوصَلَ } في محل نصب بأمر . ويحتمل أن يكون بدلاً من " ما " ، أو من الهاء في " به " . واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله ، فقيل الأرحام ، وقيل أمر أن يوصل القول بالعمل ، وقيل أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم ، وتكذيب البعض الآخر ، وقيل المراد به حفظ شرائعه ، وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة ، وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها ، فهي عامة ، وبه قال الجمهور ، وهو الحق . والمراد بالفساد في الأرض الأفعال ، والأقوال المخالفة لما أمر الله به ، كعبادة غيره ، والإضرار بعباده ، وتغيير ما أمر بحفظه ، وبالجملة ، فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً ، فهو فساد . والخسران النقصان ، والخاسر ، هو الذي نقص نفسه من الفلاح ، والفوز ، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، كان عملهم ، فساداً لما نقصوا أنفسهم من الفلاح ، والربح . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قال لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } البقرة 17 وقوله { أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء } البقرة 19 قال المنافقون الله أعلا وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ * يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } الآية . وأخرج الواحدي في تفسيره عن ابن عباس قال إن الله ذكر آلهة المشركين ، فقال { وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً } الحج 73 وذكر كيد الآلهة ، فجعله كبيت العنكبوت ، فقالوا أرأيت حيث ذكر الله الذباب ، والعنكبوت ، فيما أنزل من القرآن على محمد أيّ شيء كان يصنع بهذا ؟ فأنزل الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يستحي } وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة نحو قول ابن عباس . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال لما نزلت { ٱ يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } الحج 73 قال المشركون ما هذا من الأمثال ، فيضرب ؟ فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله تعالى { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } قال يؤمن به المؤمن ، ويعلمون أنه الحق من ربهم ، ويهديهم الله به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني المنافقين { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } يعني المؤمنين { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } قال هم المنافقون . وفي قوله { يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ } قال هو ما عهد إليهم في القرآن ، فأقرّوا به ، ثم كفروا ، فنقضوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } يقول يعرفه الكافرون ، فيكفرون به . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة قال فسقوا ، فأضلهم الله بفسقهم . وأخرج البخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعد بن أبي وقاص قال الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان يسميهم الفاسقين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة قال ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق ، فمن أعطى عهد الله ، وميثاقه من ثمرة قلبه ، فليُوفّ به الله . وقد ثبت عن رسول الله في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد ، والوعيد الشديد عليه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } قال الرحم والقرابة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله { وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلأرْضِ } قال يعملون فيها بالمعصية . وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله { أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } يقول هم أهل النار . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ، ومسرف ، وظالم ، ومجرم ، وفاسق ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى الإسلام ، فإنما يعني به الذم .