Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 93-96)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد تقدّم تفسير أخذ الميثاق ، ورفع الطور . والأمر بالسماع معناه الطاعة والقبول ، وليس المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع ، ومنه قولهم « سمع الله لمن حمده » أي قبل وأجاب ، ومنه قول الشاعر @ دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول @@ أي يقبل ، وقولهم في الجواب { سَمِعْنَا } هو على بابه ، وفي معناه أي سمعنا قولك بحاسة السمع ، وعصيناك ، أي لا نقبل ما تأمرنا به ، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم « سمعنا » ما هو معهود من تلاعبهم ، واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم ، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى { * اسمعوا } على معناه الحقيقي أي السماع بالحاسة ، ثم أجابوا بقولهم { سَمِعْنَا } أي أدركنا ذلك بأسماعنا ، عملاً بموجب ما تأمر به ، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عزّ وجلّ ، بل مراده بالأمر سماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا { وَعَصَيْنَا } . وفي قوله { وَٱشْرَبُواْ } تشبيه بليغ ، أي جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه ، ومثله قول زهير @ فصحوتُ عنها بعد حُبٍّ داخل والحبُّ يشُرْبِهُ فؤادك داء @@ وإنما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، والطعام يجاوزها ، ولا يتغلغل فيها ، والباء في قوله { بِكُفْرِهِمْ } سببية أي كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم ، وخذلاناً . وقوله { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـٰنُكُمْ } أي إيمانكم الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم ، وتكفرون بما وراءه ، فإن هذا الصنع ، وهو قولكم { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } في جواب ما أمرتم به في كتابكم ، وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاق ما زعمتم ، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل ، ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } البقرة 91 لا صادقون ، فإن زعمتم أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا ، فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم ، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى . وقوله { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلأخِرَةُ } هو ردٌّ عليهم لما ادّعوا أنهم يدخلون الجنة ، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم ، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى ، وأنها صادرة منهم لا عن برهان ، و { خَالِصَةٌ } منصوب على الحال ، ويكون خبر كان هو عند الله ، أو يكون خبر كان هو خالصة ، ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم ، إذا كانت اللام في قوله { مّن دُونِ ٱلنَّاسِ } للجنس ، أو لا يشاركهم فيها المسلمون ، إن كانت اللام للعهد . وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } البقرة 111 وإنما أمرهم بتمني الموت لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة ، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا ، ولهذا قال سبحانه { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } ، و « ما » في قوله { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } موصولة ، والعائد محذوف ، أي بما قدّمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب ، بل غير طامع في دخول الجنة ، فضلاً عن كونه قاطعاً بها ، فضلاً عن كونها خالصة له مختصة به ، وقيل إن الله سبحانه صرفهم عن التمني ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم . والمراد بالتمني هنا هو اللفظ بما يدل عليه ، لا مجرد خطوره بالقلب ، وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ، ومواطن الخصومة ، ومواقف التحدي . وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف ، والتجرؤ على الله ، وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة ، في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل ، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرّر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت ، إما لأمر قد علموه ، أو للصرفة من الله عز وجل . وقد يقال ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت ، فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهيّ عنه في شريعته ؟ ويجاب بأن المراد هنا إلزامهم الحجة ، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم . وقوله { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ } تهديد لهم ، وتسجيل عليهم بأنهم كذلك . واللام في قوله { وَلَتَجِدَنَّهُمْ } جواب قسم محذوف ، وتنكير حياة للتحقير ، أي أنهم أحرص الناس على أحقر حياة ، وأقلّ لبث في الدنيا ، فكيف بحياة كثيرة ، ولبث متطاول ؟ وقال في الكشاف إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، وتبعه في ذلك الرازي في تفسيره . وقوله { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } قيل هو كلام مستأنف ، والتقدير ومن الذين أشركوا ناس { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } وقيل إنه معطوف على الناس أي أحرص الناس ، وأحرص من الذين أشركوا ، وعلى هذا يكون قوله { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } راجعاً إلى اليهود بياناً لزيادة حرصهم على الحياة ، ووجه ذكر { الذين أشركوا } بعد ذكر { الناس } مع كونهم داخلين فيهم الدلالة على مزيد حرص المشركين من العرب ، ومن شابههم من غيرهم . فمن كان أحرص منهم ، وهم اليهود كان بالغاً في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها . وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحدّ الفاضل على حرص المشركين لأنهم يعلمون بما يحلّ بهم من العذاب في الآخرة ، بخلاف المشركين من العرب ، ونحوهم ، فإنهم لا يقرّون بذلك ، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود . والأول ، وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه أرجح لعدم استلزامه للتكليف ، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود . وقال الرازي إن الثاني أرجح ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم ، وفي إظهار كذبهم في قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا . انتهى . ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحاً قد أفاده قوله تعالى { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ على الحياة } ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين ، أن لا يكونوا من جملة الناس ، وخص الألف بالذكر لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة . وأصل سنة سنهة ، وقيل سنوة . واختلف في الضمير في قوله { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ } فقيل هو راجع إلى أحدهم ، والتقدير وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، وعلى هذا يكون قوله { أَن يُعَمَّرَ } فاعلاً لمزحزحه . وقيل هو لما دل عليه يعمر من مصدره ، أي وما التعمير بمزحزحه ، ويكون قوله { أن يعمر } بدلاً منه . وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد . وقيل هو ضمير الشأن . وقيل « ما » هي الحجازية ، والضمير اسمها ، وما بعده خبرها ، والأوّل أرجح ، وكذلك الثاني ، والثالث ضعيف جداً لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين ، ولهذا يسمونه ضمير الفصل ، والرابع فيه أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جرّ كما حكاه ابن عطية عن النحاة . والزحزحة التنحية ، يقال زحزحته ، فتزحزح أي نحيته فتنحى ، وتباعد ، ومنه قول ذي الرمة @ يا قَابِضَ الرُّوح عَنْ جِسْم عصىَ زَمناً وغافر الذنب زَحْزِحْني عَن النَّارِ @@ والبصير العالم بالشيء الخبير به ، ومنه قولهم فلان بصير بكذا أي خبير به ، ومنه قول الشاعر @ فإِنْ تَسألُوني بِالنِّساءِ فَإننِي بَصيرٌ بأدْواءِ النِّساءِ طِبيبُ @@ وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله { وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية ، أن اليهود لما قالوا { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } البقرة 111 ، نزل قوله تعالى { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ } الآية . وأخرج ابن جرير ، مثله عن قتادة . وأخرج البيهقي ، في الدلائل عن ابن عباس ، أن قوله { خَالِصَةً مّن دُونِ ٱلنَّاسِ } يعني المؤمنين { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } فقال لهم رسول الله " إن كنتم في مقالتكم صادقين ، فقولوا " اللهم أمتنا " ، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غصّ بريقه ، فمات مكانه " وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك ، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على الأرض يهوديّ إلا مات . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال « لو تمنى اليهود الموت لماتوا » . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه نحوه . وأخرج البخاري ، وغيره من حديثه مرفوعاً « لو أن اليهود تمنوا لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار » . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في قوله { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍ } قال اليهود { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } قال وذلك أن المشركين لا يرجون بعثاً بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ماله من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ } قال بمنحيه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم عنه في قوله { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم « ده هزار رسال » يعني عش ألف سنة .