Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 1-9)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقال قرب الشيء واقترب وقد اقترب الحساب ، أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه . قال الزجاج المعنى { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ } وقت { حِسَابَهُمْ } أي القيامة كما في قوله { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } القمر 1 . واللام في { للناس } متعلقة بالفعل ، وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة ، ومعنى اقتراب وقت الحساب دنّوه منهم ، لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها . وقيل لأن كل ما هو آتٍ قريب ، وموت كل إنسان قيام ساعته . والقيامة أيضاً قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان ، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى ، والمراد بالناس العموم . وقيل المشركون مطلقاً . وقيل كفار مكة ، وعلى هذا الوجه قيل المراد بالحساب عذابهم يوم بدر ، وجملة { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } في محل نصب على الحال ، أي هم في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة ، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله . والقيام بفرائضه ، والانزجار عن مناهيه . { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } " من " لابتداء الغاية . وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثاً على أن القرآن محدث ، لأن الذكر هنا هو القرآن . وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف ، لأنه متجدد في النزول . فالمعنى محدث تنزيله ، وإنما النزاع في الكلام النفسي . وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه ، قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية ، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي ، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده . والقصة أشهر من أن تذكر ، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي . ولقد أصاب أئمة السنّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع ، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي بالقرآن مخلوق ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف ، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والتمسك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمر لله سبحانه . وقوله { إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ } استثناء مفرغ في محل نصب على الحال . وجملة { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } في محل نصب على الحال أيضاً ، من فاعل استمعوه ، و { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } حال أيضاً والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب ، وقرىء " لاهية " بالرفع كما قرىء " محدث " بالرفع { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } النجوى اسم من التناجي ، والتناجي لا يكون إلا سرّاً ، فمعنى إسرار النجوى المبالغة في الإخفاء . وقد اختلف في محل الموصول على أقوال ، فقيل إنه في محل رفع بدل من الواو في { أسرّوا } ، قاله المبرد وغيره . وقيل هو في محل رفع على الذمّ . وقيل هو فاعل لفعل محذوف ، والتقدير يقول الذين ظلموا ، واختار هذا النحاس ، وقيل في محل نصب بتقدير أعني . وقيل في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد . وقيل هو في محل رفع على أنه فاعل { أسرّوا } على لغة من يجوّز الجمع بين فاعلين ، كقولهم أكلوني البراغيث ، ذكر ذلك الأخفش ، ومثله { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ } المائدة 71 ومنه قول الشاعر @ فاهتدين البغال للأغراض @@ وقول الآخر @ ولكن دنا بي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه @@ وقال الكسائي فيه تقديم وتأخير ، أي والذين ظلموا أسرّوا النجوى . قال أبو عبيدة أسرّوا هنا من الأضداد ، يحتمل أن يكون بمعنى أخفوا كلامهم ، ويحتمل أن يكون بمعنى أظهروه وأعلنوه { هَلْ هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } هذه الجملة بتقدير القول قبلها ، أي قالوا هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء ؟ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلاً من النجوى ، وهل بمعنى النفي أي وأسرّوا هذا الحديث ، والهمزة في { أَفَتَأْتُونَ ٱلسّحْرَ } للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، وجملة { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } في محل نصب على الحال ، والمعنى إذا كان بشراً مثلكم ، وكان الذي جاء به سحراً ، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه . فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما تناجوا به ، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال { قُل رَّبّي يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِى ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ } أي لا يخفى عليه شيء مما يقال فيهما ، وفي مصاحف أهل الكوفة { قال ربي } أي قال محمد ربي يعلم القول ، فهو عالم بما تناجيتم به . قيل القراءة الأولى أولى ، لأنهم أسرّوا هذا القول ، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا . قال النحاس والقراءتان صحيحتان ، وهما بمنزلة آيتين { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ } لكل ما يسمع { ٱلْعَلِيمُ } بكل معلوم ، فيدخل في ذلك ما أسرّوا دخولاً أولياً . { بَلْ قَالُواْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ } قال الزجاج أي قالوا الذي تأتي به أضغاث أحلام . قال القتيبي أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة . وقال اليزيدي الأضغاث ما لم يكن له تأويل ، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول . ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم أضغاث أحلام ، قال { بَلِ ٱفْتَرَاهُ } أي بل قالوا افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل . ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } وما أتى به من جنس الشعر ، وفي هذا الاضطراب منهم ، والتلوّن والتردّد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به ، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه ؟ أو كانوا قد علموا أنه حق ، وأنه من عند الله ، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر ، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان . ثم بعد هذا كله ، قالوا { فليأتنا بآية } وهذا جواب شرط محذوف أي إن لم يكن كما قلنا فليأتنا بآية { كَمَا أُرْسِلَ ٱلأوَّلُونَ } أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها ، وصالح بالناقة ، ومحل الكاف الجرّ صفة لآية ، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف ، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت ، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي ، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك ، كما قال { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } الأنفال 23 قال الزجاج اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال ، فقال الله مجيباً لهم { مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ } أي قبل مشركي مكة ، ومعنى { من قرية } من أهل قرية ، ووصف القرية بقوله { أَهْلَكْنَـٰهَا } أي أهلكنا أهلها ، أو أهلكناها بإهلاك أهلها . وفيه بيان أن سنّة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، و " من " في { من قرية } مزيدة للتأكيد ، والمعنى ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء ، فكيف نعطيهم ما يقترحون ، وهم أسوة من قبلهم ، والهمزة في { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } للتقريع والتوبيخ ، والمعنى إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا ، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا . ثم أجاب سبحانه عن قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم بقوله { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمُ } أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالاً من البشر ، ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه { قُل لَوْ كَانَ فِى ٱلأَرْضِ مَلَـٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً } الإسراء 95 . وجملة { نوحي إليهم } مستأنفة لبيان كيفية الإرسال ، ويجوز أن تكون صفة لـ { رجالاً } أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم . قرأ حفص وحمزة والكسائي { نوحي } بالنون ، وقرأ الباقون بالياء " يوحي " . ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } وأهل الذكر هم أهل الكتابين اليهود والنصارى ، ومعنى { إن كنتم لا تعلمون } إن كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر ، كذا قال أكثر المفسرين . وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه ، وتقدير الكلام إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر . وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنّة ، لا عن الرأي البحت ، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته . وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة سميناها « القول المفيد في حكم التقليد » . ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال { وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون ، والجسد جسم الإنسان . قال الزجاج هو واحد ، يعني الجسد ينبىء عن جماعة ، أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام فجملة { لا يأكلون الطعام } صفة لـ { جسداً } أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل ، بل هو محتاج إلى ذلك { وَمَا كَانُواْ خَـٰلِدِينَ } بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر ، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون ، فأجاب الله عليهم بهذا . وجملة { ثُمَّ صَدَقْنَـٰهُمُ ٱلْوَعْدَ } معطوفة على جملة يدلّ عليها السياق ، والتقدير أوحينا إليهم ما أوحينا . { ثم صدقناهم الوعد } أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم ، ولهذا قال سبحانه { فَأَنجَيْنَـٰهُمْ وَمَن نَّشَاء } من عبادنا المؤمنين ، والمراد إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي ، والمراد بـ { ٱلْمُسْرِفِينَ } المجاوزون للحدّ في الكفر والمعاصي ، وهم المشركون . وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } قال " في الدنيا " وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال " من أمر الدنيا " وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { بَلْ قَالُواْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ } أي فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها { بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } كل هذا قد كان منه { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل { مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا } أي أن الرسل كانوا إذا جاؤوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا . وأخرج ابن جرير عن قتادة قال قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان ما تقوله حقاً ويسرّك أن نؤمن فحوّل لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبريل فقال إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ، ثم لم يؤمنوا لم يُنْظروا ، وإن شئت استأنيت بقومك ، قال " بل أستأني بقومي " ، فأنزل الله { مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ } الآية . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } يقول لم نجعلهم جسداً ليس يأكلون الطعام ، إنما جعلناهم جسداً يأكلون الطعام .