Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 89-97)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَزَكَرِيَّا } أي واذكر خبر زكريا وقت ندائه لربه قال { رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } أي منفرداً وحيداً لا ولد لي . وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوٰرِثِينَ } أي خير من يبقى بعد كل من يموت ، فأنت حسبي إن لم ترزقني ولداً فإني أعلم أنك لا تضيع دينك وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } دعاءه { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ } . وقد تقدّم مستوفى في سورة مريم { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } . قال أكثر المفسرين إنها كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً . فهذا هو المراد بإصلاح زوجه . وقيل كانت سيئة الخلق فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق ، ولا مانع من إرادة الأمرين جميعاً ، وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها ، فتكون ولوداً بعد أن كانت عاقراً ، ويصلح أخلاقها فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية ، وجملة { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرٰتِ } للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، فالضمير المذكور راجع إليهم ، وقيل هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيـى . ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه { رَغَباً وَرَهَباً } أي يتضرّعون إليه في حال الرّخاء وحال الشدّة ، وقيل الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء ، والرهب رفع ظهورها ، وانتصاب رغباً ورهباً على المصدرية أي يرغبون رغباً ويرهبون رهباً ، أو على العلة أي للرّغب والرّهب ، أو على الحال ، أي راغبين وراهبين . وقرأ طلحة بن مصرِّف " ويدعونا " بنون واحدة ، وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده ، وقرأ ابن وثاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، وقرأ الباقون بفتح الراء وفتح ما بعده فيهما { وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ } أي متواضعين متضرّعين . { وَٱلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي واذكر خبرها ، وهي مريم ، فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ولم يمسسها بشر ، وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى ، وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أضاف سبحانه الروح إليه ، وهو للملك تشريفاً وتعظيماً ، وهو يريد روح عيسى { وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَا ءَايَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } قال الزجاج الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل . وقيل إن التقدير على مذهب سيبويه وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية كقوله سبحانه { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } التوبة 62 والمعنى أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما . وقيل أراد بالآية الجنس الشامل ، لما لكل واحد منهما من آيات ، ومعنى { أحصنت } عفت فامتنعت من الفاحشة وغيرها . وقيل المراد بالفرج جيب القميص ، أي أنها طاهرة الأثواب ، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم . ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بيّن أنهم كلهم مجتمعون على التوحيد فقال { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } والأمة الدّين كما قال ابن قتيبة ، ومنه { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أمة } الزخرف 22 أي على دين ، كأنه قال إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد ، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله ، وقيل المعنى إن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة ، وقيل المعنى إن هذه ملتكم ملة واحدة ، وهي ملة الإسلام . وانتصاب { أمة واحدة } على الحال ، أي متفقة غير مختلفة ، وقرىء " إن هٰذه أمتكم " بنصب أمتكم على البدل من اسم إنّ والخبر أمة واحدة . وقرىء برفع { أمتكم } ورفع { أمة } على أنهما خبران وقيل على إضمار مبتدأ أي هي أمة واحدة . وقرأ الجمهور برفع أمتكم على أنه الخبر ونصب أمة على الحال كما قدّمنا . وقال الفراء والزجاج على القطع بسبب مجيء النكرة بعد تمام الكلام { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ } خاصة ، لا تعبدوا غيري كائناً ما كان . { وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي تفرّقوا فرقاً في الدين حتى صار كالقطع المتفرّقة . وقال الأخفش اختلفوا فيه ، وهو كالقول الأوّل . قال الأزهري أي تفرّقوا في أمرهم ، فنصب أمرهم بحذف في ، والمقصود بالآية المشركون ، ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله . وقيل المراد جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعاً وتقسموه بينهم ، فهذا موحّد ، وهذا يهوديّ ، وهذا نصرانيّ ، وهذا مجوسيّ ، وهذا عابد وثن . ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال { كُلٌّ إِلَيْنَا رٰجِعُونَ } أي كل واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث ، لا إلى غيرنا . { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } أي من يعمل بعض الأعمال الصالحة ، لا كلها ، إذ لا يطيق ذلك أحد { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله ورسله واليوم الآخر { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي لا جحود لعمله ، ولا تضييع لجزائه ، والكفر ضدّ الإيمان ، والكفر أيضاً جحود النعمة وهو ضدّ الشكر ، يقال كفر كفوراً وكفراناً ، وفي قراءة ابن مسعود " فلا كفر لسعيه " . { وَإِنَّا لَهُ كَـٰتِبُونَ } أي لسعيه حافظون ، ومثله قوله سبحانه { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } آل عمران 195 . { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا } . قرأ زيد بن ثابت وأهل المدينة { وحرام } وقرأ أهل الكوفة " وحرم " وقد اختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ، ورويت القراءة الثانية عن عليّ وابن مسعود وابن عباس وهما لغتان مثل حلّ وحلال . وقرأ سعيد بن جبير " وحرم " بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم . وقرأ عكرمة وأبو العالية " حرم " بضم الراء وفتح الحاء والميم ، ومعنى { أَهْلَكْنَـٰهَا } قدّرنا إهلاكها ، وجملة { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره { حرام } أو على أنه فاعل له سادّ مسدّ خبره . والمعنى وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء ، وقيل إن { لا } في { لا يرجعون } زائدة أي حرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا ، واختار هذا أبو عبيدة وقيل إن لفظ حرام هنا بمعنى الواجب ، أي واجب على قرية ، ومنه قول الخنساء @ وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً على شجوه إلا بكيت على صخر @@ وقيل حرام أي ممتنع رجوعهم إلى التوبة ، على أن لا زائدة . قال النحاس والآية مشكلة ، ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل ، وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال واجب أنهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون . قال الزجاج وأبو علي الفارسي إن في الكلام إضماراً ، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها ، أو بالختم على قلوب أهلها ، أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون . { حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } " حتى " هذه هي التي يحكى بعدها الكلام ، ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس ، والمراد بفتح يأجوج ومأجوج فتح السدّ الذي عليهم ، على حذف المضاف ، وقيل إن حتى هذه هي التي للغاية . والمعنى أن هؤلاء المذكورين سابقاً مستمرّون على ما هم عليه إلى يوم القيامة ، وهي يوم فتح سدّ يأجوج ومأجوج { وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } الضمير ليأجوج ومأجوج ، والحدب ، كلّ أكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب ، مأخوذ من حدبة الأرض ، ومعنى { يَنسِلُونَ } يسرعون . وقيل يخرجون . قال الزجاج والنسلان مشية الذئب إذا أسرع . يقال نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلاً ونسولاً ونسلاناً ، أي أن يأجوج ومأجوج من كلّ مرتفع من الأرض يسرعون المشي ويتفرقون في الأرض وقيل الضمير في قوله { وهم } لجميع الخلق ، والمعنى أنهم يحشرون إلى أرض الموقف وهم يسرعون من كلّ مرتفع من الأرض . وقرىء بضم السين . حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود . وحكى هذه القراءة أيضاً الثعلبي ، عن مجاهد ، وأبي الصهباء . { وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ } عطف على { فتحت } ، والمراد ما بعد الفتح من الحساب . وقال الفراء والكسائي وغيرهما المراد بالوعد الحق القيامة والواو زائدة والمعنى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة ، فاقترب جواب إذا ، وأنشد الفراء @ فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى @@ أي انتحى ، ومنه قوله تعالى { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَـٰدَيْنَـٰهُ } الصافات 103 ، 104 . وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا { فَإِذَا هِيَ شَـٰخِصَةٌ أَبْصَـٰرُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وقال البصريون الجواب محذوف ، والتقدير قالوا يا ويلنا . وبه قال الزجاج ، والضمير في { فَإِذَا هِىَ } للقصة ، أو مبهم يفسره ما بعده ، وإذا للمفاجأة . وقيل إن الكلام تمّ عند قوله { هي } ، والتقدير فإذا هي ، يعني القيامة بارزة واقعة كأنها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ فقال { شاخصة أبصار الذين كفروا } على تقديم الخبر على المبتدأ ، أي أبصار الذين كفروا شاخصة ، و { يا ويلنا } على تقدير القول { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـٰذَا } أي من هذا الذي دهمنا من العبث والحساب { بَلْ كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة ، أي لم نكن غافلين بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل . وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } قال كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله . وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال وهبنا له ولدها . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً ووهب له منها يحيـى ، وفي قوله { وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ } قال أذلاء . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } قال رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله . وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } قال " رغباً هكذا ورهباً هكذا وبسط كفيه " ، يعني جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن حكيم قال خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله ، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل ، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ } . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال إن هذا دينكم ديناً واحداً . وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله { وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } قال تقطعوا اختلفوا في الدين . وأخرج الفريابي وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا } قال وجب إهلاكها { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قال لا يتوبون . وأخرج سعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وَحَرَّمَ عَلَىٰ قَرْيَةٍ " قال وجب على قرية { أَهْلَكْنَـٰهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } كما قال { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } يۤس 31 . وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مّن كُلّ حَدَبٍ } قال شرف { يَنسِلُونَ } قال يقبلون ، وقد ورد في صفة يأجوج ومأجوج وفي وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلق بذكرها ها هنا كثير فائدة .