Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 98-112)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بيّن سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } وهذا خطاب منه سبحانه لأهل مكة ، والمراد بقوله { وما تعبدون } الأصنام التي كانوا يعبدون . قرأ الجمهور { حصب } بالصاد المهملة ، أي وقود جهنم وحطبها ، وكل ما أوقدت به النار أو هيجتها به فهو حصب ، كذا قال الجوهري . قال أبو عبيدة كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به ، ومثل ذلك قوله تعالى { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } البقرة 24 . وقرأ عليّ بن أبي طالب وعائشة " حطب جهنم " بالطاء ، وقرأ ابن عباس " حضب " بالضاد المعجمة . قال الفراء ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب ، ووجه إلقاء الأصنام في النار مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحسّ به التبكيت لمن عبدها وزيادة التوبيخ لهم وتضاعف الحسرة عليهم . وقيل إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم ، وجملة { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إما مستأنفة أو بدل من { حصب جهنم } والخطاب لهم ولما يعبدون تغليباً ، واللام في { لها } للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل . وقيل هي بمعنى على ، والمراد بالورود هنا الدخول . قال كثير من أهل العلم ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة ، لأن { ما } لمن لا يعقل ، ولو أراد العموم لقال ومن يعبدون . قال الزجاج ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم . { لَوْ كَانَ هَـؤُلاء ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا } أي لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون ، ما وردوها أي ما ورد العابدون هم والمعبودون النار ، وقيل ما ورد العابدون فقط ، لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة ، وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد { وَكُلٌّ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } أي كلّ العابدين والمعبودين في النار خالدون لا يخرجون منها { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } أي لهؤلاء الذين وردوا النار ، والزفير صوت نفس المغموم ، والمراد هنا الأنين والتنفس الشديد ، وقد تقدّم بيان هذا في هود . { وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدّة الهول . وقيل لا يسمعون شيئاً ، لأنهم يحشرون صماً كما قال سبحانه { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } الإسراء 97 . وإنما سلبوا السماع ، لأن فيه بعض تروّح وتأنس ، وقيل لا يسمعون ما يسرهم ، بل يسمعون ما يسوؤهم . ثم لما بيّن سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } أي الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة . وقيل التوفيق ، أو التبشير بالجنة ، أو نفس الجنة . { أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة { عَنْهَا } أي عن جهنم { مُبْعَدُونَ } لأنهم قد صاروا في الجنة . { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } الحسّ والحسيس الصوت تسمعه من الشيء يمرّ قريباً منك . والمعنى لا يسمعون حركة النار وحركة أهلها ، وهذه الجملة بدل من { مبعدون } أو حال من ضميره { وَهُمْ فِيمَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـٰلِدُونَ } أي دائمون ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين كما قال سبحانه { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } فصلت 31 . { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } قرأ أبو جعفر وابن محيصن " لا يحزنهم " بضم الياء وكسر الزاي ، وقرأ الباقون { لا يحزنهم } بفتح الياء وضم الزاي . قال اليزيدي حزنه لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم . والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب { وَتَتَلَقَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } أي تستقبلهم على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم { هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي توعدون به في الدنيا وتبشرون بما فيه ، هكذا قال جماعة من المفسرين إن المراد بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } إلى هنا هم كافة الموصوفين بالإيمان والعمل الصالح ، لا المسيح وعزير والملائكة ، وقال أكثر المفسرين إنه لما نزل { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } الآية " أتى ابن الزبعري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد ألست تزعم أن عزيراً رجل صالح ، وأن عيسى رجل صالح ، وأن مريم امرأة صالحة ؟ قال بلى ، فقال فإن الملائكة وعيسى وعزيراً ومريم يعبدون من دون الله ، فهؤلاء في النار ، فأنزل الله { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } " وسيأتي بيان من أخرج هذا قريباً إن شاء الله . { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَاء كَطَيّ ٱلسّجِلّ للكتب } قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج والزهري " تطوي " بمثناة فوقية مضمومة ورفع السماء ، وقرأ مجاهد " يطوي " بالتحتية المفتوحة مبنياً للفاعل على معنى يطوي الله السماء ، وقرأ الباقون { نطوي } بنون العظمة وانتصاب { يوم } بقوله { نُّعِيدُهُ } أي نعيده يوم نطوي السماء ، وقيل هو بدل من الضمير المحذوف في توعدون ، والتقدير الذي كنتم توعدونه يوم نطوي . وقيل بقوله { لا يحزنهم الفزع } وقيل بقوله { تتلقاهم } . وقيل متعلق بمحذوف ، وهو اذكر ، وهذا أظهر وأوضح ، والطيّ ضد النشر . وقيل المحو ، والمراد بالسماء الجنس ، والسجل الصحيفة ، أي طياً كطيّ الطومار . وقيل السجل الصك ، وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة ، وأصلها من السجل ، وهو الدلو ، يقال ساجلت الرجل إذا نزعت دلواً ونزع دلواً ، ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام ، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب @ من يساجلني يساجل ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب @@ وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير " ٱلسّجِلّ " بضم السين والجيم وتشديد اللام ، وقرأ الأعمش وطلحة بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام ، والطيّ في هذه الآية يحتمل معنيين أحدهما الطيّ الذي هو ضدّ النشر ، ومنه قوله { وَٱلسَّمَـٰوٰتُ مَطْوِيَّـٰتٌ بِيَمِينِهِ } الزمر 67 . والثاني الإخفاء والتعمية والمحو ، لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها ويكدّر نجومها . وقيل السجل اسم ملك ، وهو الذي يطوي كتب بني آدم . وقيل هو اسم كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأوّل أولى . قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيـى وخلف { للكتب } جمعاً ، وقرأ الباقون { للكتاب } وهو متعلق بمحذوف حال من السجل ، أي كطيّ السجل كائناً للكتب أو صفة له أي الكائن للكتب ، فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها ، فسجلها بعض أجزائها ، وبه يتعلق الطيّ حقيقة . وأما على القراءة الثانية فالكتاب مصدر ، واللام للتعليل ، أي كما يطوي الطومار للكتابة ، أي ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وهذا على تقدير أن المراد بالطيّ المعنى الأوّل ، وهو ضدّ النشر { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة ، فأوّل خلق مفعول نعيد مقدّراً يفسره نعيده المذكور ، أو مفعول لبدأنا ، وما كافة أو موصولة ، والكاف متعلقة بمحذوف ، أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، وعلى هذا الوجه يكون أوّل ظرف لبدأنا ، أو حال ، وإنما خص أوّل الخلق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم ، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ للشمول الإمكاني الذاتي لهما ، وقيل معنى الآية نهلك كلّ نفس كما كان أوّل مرّة ، وعلى هذا فالكلام متصل بقوله { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَاء } . وقيل المعنى نغير السماء ، ثم نعيدها مرّة أخرى بعد طيها وزوالها ، والأوّل أولى ، وهو مثل قوله { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } الأنعام 94 . ثم قال سبحانه { وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِينَ } انتصاب { وعداً } على أنه مصدر أي وعدنا وعداً علينا إنجازه والوفاء به . وهو البعث والإعادة ، ثم أكد سبحانه ذلك بقوله { إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِينَ } . قال الزجاج معنى { إنا كنا فاعلين } إنا كنا قادرين على ما نشاء . وقيل إنا كنا فاعلين ما وعدناكم ، ومثله قوله { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } المزمل 18 . { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ } الزبر في الأصل الكتب ، يقال زبرت ، أي كتبت ، وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل ، وعلى كتاب داود المسمى بالزبور . وقيل المراد به هنا كتاب داود ، ومعنى { مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ } أي اللوح المحفوظ . وقيل هو التوراة ، أي والله لقد كتبنا في كتاب داود من بعد ما كتبنا في التوراة أو من بعد ما كتبنا في اللوح المحفوظ { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّـٰلِحُونَ } . قال الزجاج الزبور جميع الكتب التوراة والإنجيل والقرآن ، لأن الزبور والكتاب في معنى واحد ، يقال زبرت وكتبت ، ويؤيد ما قاله قراءة حمزة في الزبور بضم الزاي ، فإنه جمع زبر . وقد اختلف في معنى { يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّـٰلِحُونَ } فقيل المراد أرض الجنة ، واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ } الزمر 74 . وقيل هي الأرض المقدسة . وقيل هي أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته بفتحها . وقيل المراد بذلك بنو إسرائيل ، بدليل قوله سبحانه { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلاْرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } الأعراف 137 والظاهر أن هذا تبشير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بوراثة أرض الكافرين ، وعليه أكثر المفسرين . وقرأ حمزة " عبادي " بتسكين الياء ، وقرأ الباقون بتحريكها . { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلَـٰغاً } أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه { لبلاغاً } لكفاية ، يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة وتبلغ ، أي كفاية . وقيل الإشارة بقوله { إِنَّ فِي هَـٰذَا } إلى القرآن { لّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ } أي مشغولين بعبادة الله مهتمين بها . والعبادة هي الخضوع والتذلل ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورأس العبادة الصلاة . { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } أي وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال والعلل ، أي ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة ، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين ، قيل ومعنى كونه رحمة للكفار أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال ، وقيل المراد بالعالمين المؤمنون خاصة ، والأوّل أولى بدليل قوله سبحانه { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } الأنفال 33 . ثم بيّن سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال { قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } إن كانت « ما » موصولة فالمعنى أن الذي يوحى إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادّها ، وإن كانت « ما » كافة فالمعنى أن الوحي إليّ مقصور على استئثار الله بالوحدة ، ووجه ذلك أن القصر أبداً يكون لما يلي إنما ، فإنما الأولى لقصر الوصف على الشيء كقولك إنما يقوم زيد ، أي ما يقوم إلا زيد . والثانية لقصر الشيء على الحكم كقولك إنما زيد قائم ، أي ليس به إلا صفة القيام { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } منقادون مخلصون للعبادة ولتوحيد الله سبحانه . { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن الإسلام { فَقُلْ } لهم { آذنكم عَلَىٰ سَوَاء } أي أعلمتكم أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين على سواء في الإعلام لم أخصّ به بعضكم دون بعض كقوله سبحانه { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاء } الأنفال 58 أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضاً سوّيت بينهم فيه . وقال الزجاج المعنى أعلمتكم ما يوحى إليّ على استواء في العلم به ، ولا أظهر لأحد شيئاً كتمته على غيره { وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي ما أدري أما توعدون به قريب حصوله أم بعيد ، وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله وقيل المراد بما توعدون القيامة . وقيل آذنتكم بالحرب ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك وتخفونه { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } أي ما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم واختبار ليرى كيف صنعكم { وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ } أي وتمتيع إلى وقت مقدّر تقتضيه حكمته . ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { قَالَ رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين بما هو الحق عندك ففوّض الأمر إليه سبحانه . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن " رب " بضم الباء . قال النحاس وهذا لحن عند النحويين لا يجوز عندهم رجل أقبل ، حتى يقول يا رجل . وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب " أحكم " بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم ، أي قال محمد ربي أحكم بالحقّ من كل حاكم . وقرأ الجحدري " أحكم " بصيغة الماضي ، أي أحكم الأمور بالحق . وقرىء " قل " بصيغة الأمر ، أي قل يا محمد . قال أبو عبيدة الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف ، والتقدير ربّ احكم بحكمك الحق ، { وربّ } في موضع نصب ، لأنه منادى مضاف إلى الضمير ، وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فعذبهم ببدر ، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين . ثم قال سبحانه متمماً لتلك الحكاية { وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } من الكفر والتكذيب ، فـ { ربنا } مبتدأ وخبره { الرحمٰن } أي هو كثير الرحمة لعباده ، { المستعان } خبر آخر ، أي المستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من أن الشوكة تكون لكم ، ومن قولكم { هَلْ هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } الأنبياء 3 وقولكم { ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } مريم 88 وكثيراً ما يستعمل الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب كقوله { وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء 18 ، وقوله { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } الأنعام 139 وقرأ المفضل والسلمي " على ما يصفون " بالياء التحتية . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب . وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال لما نزلت { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله ، فنزلت { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } عيسى وعزير والملائكة . وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه قال جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قال ابن الزبعري قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ، فنزلت { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُواْ أآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } الزخرف 57 ، 58 . ثم نزلت { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } . وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والطبراني من وجه آخر عنه أيضاً نحوه بأطول منه . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } قال " عيسى وعزير والملائكة " . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله { حَصَبُ جَهَنَّمَ } قال شجر جهنم ، وفي إسناده العوفي . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من وجه آخر أن { حَصَبُ جَهَنَّمَ } وقودها . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال هو حطب جهنم بالزنجية . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } قال " حيات على الصراط تقول حس حس " وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي في قوله { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } قال حيات على الصراط تلسعهم ، فإذا لسعتهم قالوا حس حس . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن محمد بن حاطب قال سئل عليّ عن هذه الآية { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } قال هو عثمان وأصحابه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } يقول لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزل منزلهم من الجنة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } قال النفخة الآخرة ، وفي إسناده العوفي . وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة رجل أمّ قوماً وهم به راضون ، ورجل كان يؤذن في كل يوم وليلة . وعبد أدّى حق الله وحقّ مواليه " وأخرج عبد بن حميد عن عليّ في قوله { كَطَيّ ٱلسّجِلّ } قال ملك . وأخرج عبد بن حميد عن عطية مثله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال السجل ملك ، فإذا صعد بالاستغفار قال اكتبوها نوراً . وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر قال السجل ملك . وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، وابن منده في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس قال السجل كاتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن المنذر وابن عديّ وابن عساكر عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل ، وهو قوله { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَاء كَطَىّ ٱلسّجِلّ } قال كما يطوي السجل الكتاب كذلك نطوي السماء . وأخرج ابن المنذر ، وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عمر قال كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم كاتب يقال له السجل ، فأنزل الله { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَاء كَطَيّ ٱلسّجِلّ } . قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا الحديث وهذا منكر جداً من حديث نافع عن ابن عمر ، لا يصح أصلاً . قال وكذلك ما تقدّم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضاً . وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه ، وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج وقد أفردت لهذا الحديث جزءاً له على حدة ، ولله الحمد . قال وقد تصدّى الإمام أبو جعفر ابن جرير للإنكار على هذا الحديث وردّه أتمّ ردّ ، وقال ولا نعرف في الصحابة أحداً اسمه سجلّ ، وكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا معروفين ، وليس فيهم أحد اسمه السجل . وصدق رحمه الله في ذلك وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث . وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم . قال والصحيح عن ابن عباس أن السجلّ هو الصحيفة ، قاله عليّ بن أبي طلحة والعوفي عنه . ونصّ على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتاب أي على الكتاب ، يعني المكتوب كقوله { ٱفَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } الصافات 103 ، أي على الجبين ، وله نظائر في اللغة والله أعلم . قلت أما كون هذا هو الصحيح عن ابن عباس فلا ، فإن عليّ بن أبي طلحة والعوفيّ ضعيفان ، فالأولى التعويل على المعنى اللغوي والمصير إليه . وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال { ٱلسّجِلّ } هو الرجل ، زاد ابن مردويه بلغة الحبشة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية قال كطيّ الصحيفة على الكتاب . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } يقول نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ } قال القرآن { أَنَّ ٱلأَرْضَ } قال أرض الجنة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ } قال الكتب { مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ } قال التوراة وفي إسناده العوفي . وأخرج سعيد بن منصور عنه أيضاً ، قال الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن . والذكر الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء ، والأرض أرض الجنة . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّـٰلِحُونَ } قال أرض الجنة . وأخرج بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السمٰوات والأرض أن يورث أمة محمد الأرض ، ويدخلهم الجنة ، وهم الصالحون ، وفي قوله { لَبَلَـٰغاً لّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ } قال عالمين ، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلَـٰغاً لّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ } قال الصلوات الخمس . وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في قول الله { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلَـٰغاً لّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ } قال في الصلوات الخمس شغلاً للعبادة " وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { لَبَلَـٰغاً لّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ } قال " هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } قال من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف . وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين ، قال " إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة " وأخرج الطيالسي وأحمد والطبراني ، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين " وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة ، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين ، فاجعلها عليه صلاة يوم القيامة " وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما أنا رحمة مهداة " وقد روي معنى هذا من طرق . وأخرج ابن أبي خيثمة وابن عساكر عن الربيع بن أنس قال لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم رأى فلاناً ، وهو بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } يقول هذا الملك . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } يقول ما أخبركم به من العذاب والساعة ، لعلّ تأخير ذلك عنكم فتنة لكم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله { قُل رَّبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } قال لا يحكم الله إلا بالحق ، وإنما يستعجل بذلك في الدنيا يسأل ربه .