Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 68-83)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ } بين سبحانه أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة الأوّل عدم التدبر في القرآن ، فإنهم لو تدّبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه ، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدّر ، أي فعلوا ما فعلوا فلم يتدبروا ، والمراد بالقول القرآن ، ومثله { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ } النساء 82 ، محمد 24 . والثاني قوله { أم جاءهم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ ٱلأَوَّلِينَ } أم هي المنقطعة ، أي بل جاءهم من الكتاب ما لم يأتِ آباءهم الأوّلين ، فكان ذلك سبباً لاستنكارهم للقرآن ، والمقصود تقرير أنه لم يأتِ آباءهم الأوّلين رسول فلذلك أنكروه ، ومثله قوله { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } يۤس 6 . وقيل إنه أتى آباءهم الأقدمين رسل أرسلهم الله إليهم . كما هي سنّة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى عباده ، فقد عرف هؤلاء ذلك ، فكيف كذبوا هذا القرآن ؟ وقيل المعنى أم جاءهم من الأمن من عذاب الله ما لم يأتِ آباءهم الأوّلين كإسماعيل ومن بعده . والثالث قوله { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدّم إلى التوبيخ بوجه آخر ، أي بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه ، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك . والرابع قوله { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } وهذا أيضاً انتقال من توبيخ إلى توبيخ ، أي بل أتقولون به جنة ، أي جنون ، مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلاً ، ولكنه جاء بما يخالف هواهم فدفعوه وجحدوه تعصباً وحمية . ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال { بَلْ جَاءهُمْ بِٱلْحَقّ } أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول ، بل جاءهم ملتبساً بالحق ، والحق هو الدين القويم { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَـٰرِهُونَ } لما جبلوا عليه من التعصب ، والانحراف عن الصواب ، والبعد عن الحق ، فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر ، وظاهر النظم أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق ، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفاً من الكارهين له . وجملة { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ } مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزماً للفساد العظيم ، وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية ، وهو معنى قوله { لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَـٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسديّ الحق هو الله ، والمعنى لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكاً لفسدت السمٰوات والأرض . وقال الفراء والزجاج يجوز أن يكون المراد بالحق القرآن ، أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم . وقيل المعنى ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ، ومثل ذلك قوله { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } الأنبياء 22 وقد ذهب إلى القول الأوّل الأكثرون ، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله في قوله { بَلْ جَاءهُمْ بِٱلْحَقّ } ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه ، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله ، والمعنى ولو ورد الحق متابعاً لأهوائهم موافقاً لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد ، والمراد بقوله { وَمَن فِيهِنَّ } من في السمٰوات والأرض من المخلوقات . وقرأ ابن مسعود " وما بينهما " وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر ، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق ، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدوا فسدوا . ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال { بَلْ أَتَيْنَـٰهُمْ بِذِكْرِهِمْ } والمراد بالذكر هنا القرآن ، أي بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم ، ومثله قوله { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } الزخرف 44 . والمعنى بل آتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ، ويقبلوا عليه . وقال قتادة المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم . وقيل المعنى بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر " أتيتهم " بتاء التكلم . وقرأ أبو حيوة والجحدري " أتيتهم " بتاء الخطاب ، أي أتيتهم يا محمد . وقرأ عيسى بن عمر " بذكراهم " . وقرأ قتادة " نذكرهم " بالنون والتشديد من التذكير ، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال . وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال ، وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره . ثم بين سبحانه أن دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم ليست مشبوهة بأطماع الدنيا فقال { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } و " أم " هي المنقطعة ، والمعنى أم يزعمون أنك تسألهم خرجاً تأخذه على الرسالة ، والخرج الأجر والجعل ، فتركوا الإيمان بك وبما جئت به لأجل ذلك ، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم { فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ } أي فرزق ربك الذي يرزقك في الدنيا ، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر . قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيـى ابن وثاب " أم تسألهم خراجاً " ، وقرأ الباقون { خرجا } وكلهم قرؤوا { فَخَرَاجُ } إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرآ " فخرج " بغير ألف . والخرج هو الذي يكون مقابلاً للدخل ، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجاً ، والخراج غالب في الضريبة على الأرض . قال المبرد الخرج المصدر ، والخراج الاسم . قال النضر بن شميل سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال الخراج ما لزمك ، والخرج ما تبرعت به . وروي عنه أنه قال الخرج من الرقاب ، والخراج من الأرض { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرازِقِينَ } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خير . ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ونفى عنه أضداد ذلك قال { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة ، والصراط في اللغة الطريق ، فسمي الدين طريقاً لأنها تؤدّي إليه . ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك فقال { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصّرٰطِ لَنَـٰكِبُونَ } يقال نكب عن الطريق ينكب نكوباً إذا عدل عنه ومال إلى غيره ، والنكوب والنكب العدول والميل ، ومنه النكباء للريح بين ريحين ، سميت بذلك لعدولها عن المهابّ ، و { عن الصراط } متعلق بـ { ناكبون } ، والمعنى أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط أو جنس الصراط لعادلون عنه . ثم بين سبحانه أنهم مصرّون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال { وَلَوْ رَحِمْنَـٰهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ } أي من قحط وجدب { لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم { يَعْمَهُونَ } يتردّدون ويتذبذبون ويخبطون . وأصل اللجاج التمادي في العناد ، ومنه اللجة بالفتح لتردّد الصوت ، ولجة البحر تردّد أمواجه ، ولجة الليل تردد ظلامه . وقيل المعنى لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم . { وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ } جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها . والعذاب قيل هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط . وقيل المرض . وقيل القتل يوم بدر ، واختاره الزجاج . وقيل الموت . وقيل المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية { فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ } أي ما خضعوا ولا تذللوا ، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرّد على الله والانهماك في معاصيه { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم ، ولا يدعونه لرفع ذلك { حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قيل هو عذاب الآخرة . وقيل قتلهم يوم بدر بالسيف . وقيل القحط الذي أصابهم . وقيل فتح مكة { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي متحيرون ، لا يدرون ما يصنعون . والإبلاس التحير والإياس من كل خير . وقرأ السلمي " مبلسون " بفتح اللام من أبلسه ، أي أدخله في الإبلاس . وقد تقدّم في الأنعام . { وَهُوَ ٱلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلاْبْصَـٰرَ } امتنّ عليهم ببعض النعم التي أعطاهم ، وهي نعمة السمع والبصر { وَٱلأَفْئِدَةَ } فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق ، ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي شكراً قليلاً حقيراً غير معتدّ به باعتبار تلك النعم الجليلة . وقيل المعنى أنهم لا يشكرونه ألبتة ، لا أن لهم شكراً قليلاً . كما يقال لجاحد النعمة ما أقلّ شكره ، أي لا يشكره ، ومثل هذه الآية قوله { فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ } الأحقاف 26 . { وَهُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ } أي بثكم فيها كما تبث الحبوب لتنبت وقد تقدّم تحقيقه { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم . { وَهُوَ ٱلَّذِي يُحي وَيُمِيتُ } على جهة الانفراد والاستقلال ، وفي هذا تذكير لنعمة الحياة ، وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة { وَلَهُ ٱخْتِلَـٰفُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } قال الفراء هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض . وقيل اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر . وقيل تكرّرها يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة { أَفلاَ تعقلون } كنه قدرته وتتفكرون في ذلك . ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبنيّ على مجرد الاستبعاد فقال { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ ٱلأَوَّلُونَ } أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم . ثم بين ما قاله الأوّلون فقال { قَالُواْ أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } فهذا مجرّد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشيء من الشبه ، ثم كملوا ذلك القول بقولهم { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هَـٰذَا مِن قَبْلُ } أي وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدّقه كما لم يصدّقه من قبلنا ، ثم صرّحوا بالتكذيب وفرّوا إلى مجرّد الزعم الباطل فقالوا { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة ، والأساطير الأباطيل والترهات والكذب . وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } قال عرفوه ولكنهم حسدوه . وفي قوله { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ } قال الحق الله عزّ وجلّ . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { بَلْ أَتَيْنَـٰهُمْ بِذِكْرِهِمْ } قال بينا لهم ، وأخرجوا عنه في قوله { عَنِ ٱلصّرٰطِ لَنَـٰكِبُونَ } قال عن الحقّ لحائدون . وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال جاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ، يعني الوبر بالدم ، فأنزل الله { وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } ، وأصل الحديث في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال " اللّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " الحديث . وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في المعرفة ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة . فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ قال " بلى " . قال فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله { وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ } الآية . وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ بن أبي طالب في قوله { فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } قال أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا ، ولو خضعوا لله لاستجاب لهم . وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال قد مضى ، كان يوم بدر .